قطع «بازل» .. ومباراة فوتبول
عباس الحاج أحمد
طلبت آية من أحد أقربائها إعداد صورة «بازل» لها مع أمها. لحظة جميلة أرادت أن تجمعها بيديها قطعة قطعة، بينما كان المرض يفتك بها خلية خلية. أرادت مواجهة الألم بطريقتها الخاصة. جمعت القطع واكتملت الصورة. الصورة التي خلدت لحظتها الجميلة.
عرفت النبطية الفوقا وبالأخص «حي القعيدة» الكثير عن عائلة آية وأجدادها… تجمعات يومية حول «الصوبة»، مناقيش بفرن خاص، ودروس مشتركة للتلاميذ المتقاربة أعمارهم. إنها عائلة آل طيراني، العائلة التي تمد يدها في السراء والضراء لباقي العائلات.
على خط موازٍ زمنياً، وبعيد مكانياً. كان محمد عثمان الملقب بـ«محمد الحديدي» يجابه المرض بكرة القدم الأميركية. محمد العدّاء والسبّاح، أبى إلا أن يحمل روحه الرياضية بلحظاته الأخيرة. قبل ثلاثة أيام من رحيله، ومع علمه المسبق بأن العد العكسي قد بدأ، تجمّع حوله الأصدقاء في المستشفى وشاهدوا مباراة فريقه المفضل، فريق «الليونز» ديترويت. مع كل نقطة تُسجل لأصحاب القبعات الحديدية تتحرك الإرادة الصلبة في دم محمد المتفوق دراسياً والناشط اجتماعياً. أكثر من 140 صديقاً كانوا يزورونه في المستشفى. مراهقون تعلموا باكراً قيمة «الصديق وقت الضيق». صديق شهم كمحمد المنحدر من عائلة لبنانية محبوبة وناشطة في المجتمع العربي بولاية ميشيغن. والده المتطوع والناشط أسس عائلته في جوّ الخدمة العامة ومحبة الناس حاملاً صفاته الريفية الطيبة من بلدته الأم، «بيت ياحون» الحدودية.
آية البالغة من العمر اثني عشر عاماً ومحمد البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً رحلا سوياً بأسبوع واحد وبمرض واحد اسمه «سرطان الدم». تزامن القصتين وتشابه تفاصيلهما ليس غريباً. الأفعال البشرية والمسببات البيولوجية التي تسبب الأمراض هي واحدة في لبنان والولايات المتحدة. وإرادة التحدي لدى آية ومحمد، هي إرادة الطفولة البريئة التي تواجه الأفعال الشريرة للبشر والمحيط.
واجهت آية ألمها بتركيب صورة بازل. وواجه محمد معاناته بمشاهدة كرة القدم الأميركية. وما بين صورة البازل وشاشة التلفاز، صاح الموت معلناً انتصاره. ولكن.. بقي محمد حيا بروح أخيه التوأم علي، وعاشت آية بطفولتها في أنفاس أختها الكبيرة نبيلة.
كانت آية قد أجرت عملية سابقة ليظن الجميع بأنها نجت. لكن المرض عاد إليها من خلايا يدها لينتشر من جديد. أما محمد الذي أصيب بمرضه منذ حوالي سنة ونصف، كان قد خضع للعديد من أساليب علاج المرض الخبيث متنقلاً بين عدة مستشفيات من ضمنها مستشفى جامعة ميشيغن في مدينة آناربر.
كانت أية تتحضر لإجراء عملية في منتصف هذا الشهر. وضجت وسائل التواصل الإجتماعي بخبرها لتتلقى الدعم الذي وصل إلى شباك تذاكر مباراة النجمة والعهد في مبادرة جماهيرية مميزة. ولكن الخاتمة لم تكن سعيدة. توفيت آية وانتهت المباراة بتكسير و شغب.
في الوقت الذي كنا نتابع فيه أخبار الدعم لآية. كانت طلبات الدعاء تنتشر أيضاً لمحمد. دعاء لم يكن كافياً ليقف بوجه تلوث بيئي، وتدهور مناخي ووباء مرضي لم تقدر على منعه أقوى دول العالم.
في الوقت الذي تنتشر فيه النفايات وتعلو مستويات التلوث في لبنان، يتدهور المناخ وتنتشر الحياة الاستهلاكية غير الصحية في العالم أجمع. تسيطر على شركات الدواء عقول «رأسمالية» ترى في المرض سلعة والمريض رقماً.
تنتقل الحياة البشرية من أجواء الطبيعة وشمسها ومياهها العذبة إلى داخل المعلبات المليئة بالباطون والبلاستيك والخشب المصنع. لنرى بوضوح أن مرض السرطان ليس عقابا إلهياً أو تدخلاً شيطانياً، هو بكل بساطة تراكم لأفعال بشرية يومية تحفر في باطن الأرض لاستخراج النفط والغاز ودفن بقايا النفايات النووية والكيميائية السامة، فتُحفر القبور للملايين حول العالم.
ما بين حكايا أزقة النبطية الفوقا، يروي الشاب محمد طيراني –أحد أقرباء آية– الذي يمتلك والده فرناً شعبياً مميزاً بجانب منزله، علاقة آية مع المناقيش وعشقها لزيارتهم حيث يتجمع أهل الحارة.
بالرغم من خوف والدتها عليها بسبب وجودها بقرب «النار» ورائحة الزيت، أو حتى لاقترابها من دخان السجائر –فهي وحيدتها في المنزل باعتبارها آخر العنقود المتبقي لها بعد زواج إخوتها– إلا أن آية كانت تصر دائماً على التواجد في المكان الذي تشعر فيه بالسعادة. كما أن لآية قصة خاصة مع القطط. كانت تداعبها وتبحث عنها دائماً في شوارع الحارة. يضيف محمد أنه في حديثه معها نقلت إليه تفاؤلها رغم المرض «أنا منيحة وبدي ابقى منيحة..».
أما في ديار ميشيغن، الولاية الصناعية، ينقل والد الشاب محمد عثمان التفاصيل الأخيرة لكلمات ابنه قبل الرحيل. على سرير المستشفى، رأى محمد إثنا عشر ملاكاً محيطين به وأنه يشعر براحة تامة.
يحمل الوالد قصة ابنه الشجاع والقوي بكل صبر وإيمان بالحياة. فهو الإنسان الفاعل والمحبوب بين جالية وطنه وأصدقائه الأجانب.
بين ميشيغن، وأزقة الحارة في النبطية يجتمع الموت القاهر بالزمان ولا يفرق بين المكان. لينبهنا من جديد إلى أن للجسم والطبيعة حق علينا، إن أهملنا حمايتهما سيهملان حمايتنا.
Leave a Reply