لم استعجلت به أيها الموت، فالشاعر المنفي في أقاصي البلاد لم يكتمل حلمه بعد. مغمض العينين هو ولكن عيناه تسافران، بلا كلل، بين عكا وحيفا والجليل، تتفحصان، وتتعهدان كل شجرة، زهرة، صخرة، بين مهدم، حارة، زقاق، هو يحفظها بتفاصيلها الدقيقة منذ أكثر من ستين عاماً، ويسهر بجانبها خشية من أن يغيرها أحد.
وليقذفه اليم إلى الساحل أو قريباً منه، هناك في البروة، طفلاً يلهو، يقطف تيناً، يعدو إلى شجرة نحت عليها إسمه مع رفيق صباه سميح، ينشد شعراً وأغنية للرمل والنجم والمزرعة والصبية ذهب وهو ما زال يحن إلى خبز أمه، وقهوة أمه، وزعتراً وزيتاً، ولقمة هانئة في وطن كان يوماً بعيداً قبل أن تطأه أقدام الغرباء. هو المواطن الحقيقي وهم العابرون في كلام عابر، قال لهم انصرفوا، أقيموا حيثما شئتم ولكن لا تقيموا أسماءكم وانصرفوا.
أيها الموت، هذا الطفل الستيني، أمضى العمر رحالة بين العواصم الشقيقة والغريبة، ولم يتغنى قط ببهاء باريس، وروعة لندن، كلما آخى عاصمة رمته بالحقيبة، ولم يحلو له أن يتغزل إلا بشواطئ حيفا، وقلاع عكا، وبيوت يافا القديمة وهو الآن في هيوستن حسداً، ولكنه روحه هناك في البروة وحيفا وعكا والمثلث والناصرة، تعرفه الشوارع، والمآذن والكنائس، والملاعب، والساحات والمدارس والأسواق، تعرفه جيداً فتى أسمعت كلماته من به صممُ.
أيها الموت، فاجأته بالرحيل، وقبل الموت، كان ينتظر قرطاساً وقلماً ليدون تاريخاً وأناشيد، ومآتماً وأعراساً وسننا من البعد والعشق، والتغاني، والشوق، والوجد والحنين، فعنده من القصائد الأجمل التي لم تكتب بعد قلبه المتعب الصغير حمل أحزان أمة كاملة لعقود، نبض بنبضها، فرح، حزن، بكى، ولكنه أبداً ما استسلم، جواداً ما كبا، غزالاً ما توقف يوماً عن العدو، ويمامة لم تكف عن النشيد، وسنونو لم يكف عن التحليق، توقفت نبضاته وقد كانت كل دقة سطراً من قصيدة جديدة تؤرق مضاجع الغزاة، هم بأسلحتهم وهو يواجههم بالأحرف المشتعلة والكلمات الموقوتة، والأسطر المتفجرة والقصيدة المقاتلة، يتقدم ويتراجعون، يسمو وينقبرون ينتصر وينهزمون.
هيوستن، ما أبعدها عن الوطن، بعيدة حتى عن الزنازين التي قضى فيها زهرة شبابه، لم يحمل سلاحاً، بل كانت له شفتان وعنده قلم، أدانوه بإمتلاك أسلحة مدمرة رموه في الزنازين، ولم يستطيعوا أن يجردوه من سلاحه، قاوم في السجن كما من خارج السجن، قارعهم بالحجة والتاريخ والفلسفة والنثر والشعر، هذا الجسد الراقد في هيوستن، أنتم لا تعرفونه، إنه يمتلك أجنحة يحلق بها حيث شاء، ومتى شاء مع النجوم هناك عالياً، يرفوا إلى وطن صغير سلبوه منه، ولكنه يعود إليه دائماً، إلى غرفة نومه، حاكورته، داليته، زيتونته، وصفه المدرسي، يعود من الأبواب والشبابيك، والسقوف والجدران، هم لا يستطيعون وقفه ولا منعه، عفواً هو لا يعود إلى وطن لم يغادره أصلاً، هو يسكن في الوطن، والوطن يسكن فيه.
أيها الموت، أخذته بعيداً ولم يكتب قصيدة النصر بعد، كان يحلم أن يكتبها، ويعود بها إليها مهراً، لعروسته، لزفاف كان يحلم به منذ ستين عاماً، عاد كما قال شهيداً وشريداً إلى الحبيبة، فلنبك في هذا العرس الفلسطيني الفريد، ولترو جسده أمطار فلسطين، وليتفيأ تحت شجرة تين، توت أو زيتون فلسطينية تحنوا عليه ولتبك عليه الأشجار والسواحل، والرمال، والأزهار والتلال، والأطفال، والحقائب المدرسية، والنساء، والمناديل، والسماء، والرجال، ولتبكِ فلسطين كلها على حبيبها العائد إلى أحضانها.
Leave a Reply