تجاوز الخلاف حول مرسوم منح الأقدمية لدورة ضباط 1994 في الجيش اللبناني، الحدود القانونية والتقنية، ليتخذ أبعاداً سياسية ودستورية متداخلة، هزّت العلاقة الرخوة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري ووضعتها على المحك مجدداً.
لم يصمد طويلاً، الود الذي ساد بين عون وبري خلال أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية، بعدما أعادت إشكالية المرسوم الخلافي نبش الجمر الكامن تحت رماد علاقة الرئيسين التي بدا أنها لم تكتسب بعد، ما يكفي من المناعة في مواجهة الانبعاثات السياسية السامة.
كان البعض قد افترض للحظة أن تناغم رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي في معالجة قضية الحريري سيؤسس لمرحلة جديدة من التعاون وسيطوي مرحلة طويلة من البرود، تعود إلى ما قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية واستمرت بعد انتخابه، لاسيما أن بري عارض جهاراً وصول الجنرال إلى قصر بعبدا.
لكن سرعان ما تبين أن مصيبة احتجاز الحريري لم تجمع رئيسي الجمهورية والمجلس سوى لوقت قصير وعابر، بحيث كان يكفي لمرسوم واحد ومباغت أن يعيد انتاج أزمة الثقة المتبادلة وأن يشعل مواقع التواصل الاجتماعي التي ألهبتها حماسة المناصرين من الجانبين، على وقع الاتهامات والاتهامات المضادة. وهناك من يقول إنه وبمعزل عما إذا كان الحق مع عون أم بري، فإن توقيت اشتباك المرسوم هو الأسوأ، باعتبار أنه فرّط بلحظة توافقية داخلية كان يمكن البناء عليها، بدل التفريط بها واستبدالها بمعركة حادة بين قصر بعبدا وعين التينة.
مقاربتان متباعدتان
وفي هذا السياق، يعتبر البعض أن رئيس الجمهورية الذي أدار بحنكة وحكمة، الأزمة التي ترتبت على استقالة الحريري القسرية، ما حقق إجماعاً داخلياً حوله وإعجاباً خارجياً بدوره، إنما كان يجب أن يحمي هذا الرصيد ويعززه، وصولاً إلى تكريس نفسه كزعيم وطني عابر للاصطفافات السياسية أو الطائفية، عبر تجنب الخوض في تفاصيل خلافية، وبالتالي تفادي إطلاق شرارة المرسوم في هذا التوقيت، حتى لو كان مقتنعاً بأنه محق في توقيعه إضافة إلى رئيس الحكومة من دون الحاجة إلى توقيع وزير المال.
لكن عون يعتبر في المقابل أن ما فعله ينسجم مع الدستور والقانون، ويندرج في إطار صلاحياته، وأن الوقت حان لإنصاف ضباط دورة 1994 المعروفة بـ«دورة عون» من خلال منحهم أقدمية سنة، وأن المرسوم المتصل بهم لا يحتاج إلى توقيع وزير المال كونه لا يرتب أعباء مالية على الخزينة، ما دامت لم تتم بعد ترقية هؤلاء الضباط، وحين يحصل ذلك لا يمكن استبعاد الوزير المختص.
وبهذا المعنى، يستشعر عون أن الهدف من اعتراض رئيس المجلس على المرسوم هو توجيه رسائل سياسية مشفرة اليه، أبرزها أنه منزعج من الرئيس القوي، ولا يستسيغ الشراكة الواسعة بين رئيسي الجمهورية والحكومة، والتي تعززت بعد الدور الذي أداه عون في تحرير الحريري من القيد السعودي، لشعوره بأنها تهدد مصالحه الحيوية وموقعه كشريك في السلطة، وفق تحليل المقربين من عون لأبعاد موقف بري من المرسوم.
في المقابل، يؤكد بري أن موقفه لا ينطلق من أي اعتبار فئوي بل يستند إلى التزامه بالأصول الدستورية والقانونية التي تحتم وجود توقيع وزير المال على مرسوم منح الأقدمية للضباط، كونه يرتب كلفة مالية مباشرة وغير مباشرة، محذراً من أن القفز فوق هذا التوقيع الالزامي ينطوي على انتهاك لقواعد اتفاق الطائف وتوازناته.
وبالنسبة إلى بري، لا يمكن ولا يجوز أن تكون هناك مزايدة على دعمه للجيش، رافضاً بشدة محاولات الإيحاء بأن اعتراضه على المرسوم موجه ضد المؤسسة العسكرية.
وبرغم أن رئيس المجلس كان يعترض في البداية على اختلال التوازن الطائفي في المرسوم الذي تستفيد منه أغلبية ساحقة من الضباط المسيحيين، إلا أنه أبدى مؤخراً استعداده لتجاوز هذا الأمر بغية تسهيل الحل، مشيراً إلى أن المطلوب فقط ضم توقيع وزير المال علي حسن خليل إلى توقيعَي رئيسي الجمهورية والحكومة، وعندها تصبح الأزمة بحكم المنتهية.
التسوية المقترحة
يعتقد بري انه يكون قد تنازل 50 بالمئة من خلال موافقته على منح الأقدمية لضباط دورة 94 وفق توزيعهم المعتمد، والمطلوب من عون أن يتنازل 50 بالمئة أيضاً عبر موافقته على إضافة توقيع وزير المال إلى المرسوم، بحيث يلتقي الجانبان في منتصف الطريق. ولكن عون لا يزال يرفض هذه التسوية، برغم المداخلات التي جرت معه من قبل «حزب الله» والحريري.
وفيما أكد الحريري أنه يبذل جهداً لمعالجة الخلاف بين عون وبري متريثاً في نشر المرسوم حتى الآن، يشير المقربون من رئيس المجلس إلى أنه منزعج من استجابة رئيس الحكومة لطلب رئيس الجمهورية بأن يوقع على المرسوم حتى يصبح نافذاً، من خلف ظهر وزير المال، علماً أنه كان معترضاً عليه في السابق.
Leave a Reply