إن الذين قالوا عن الفنّ السومري بأنه فن يعاني من عقدة الطفولة والبدائية وعدم الإدراك للمنظور والنِسَب العامة لم يتوصّلوا إلى الحقيقة.
لأن الفنَّ السومري في تلك الفترة التي كان يتمّ فيها تأليه البطل وتختار مّن هو الأقوى لحماية ممتلكات الأ فراد والمعبد والدولة، وهو فنّ تعبدي تعبيري بالدرجة الأولى يقتنص الحوادث التي ترضي الحاكم والمعبد ويبرزها بشكل درامي تصاعدي نحو الهدف الذي أنتِجَ من أجله الشكل ويوضح المعلومة، ويخلد الملوك الأقوياء الحامين لأسوار المدينة وحيواناتها من أعدائها الرئيسيين (الحيوانات المفترسة والثيران الوحشية)، وهذه الأعمال يؤدّيها الكتّاب والفنانون والنساخون الذين يعملون داخل المعبد لصالح التقديس ولصالح الحاكم المتألّه.
وفي زمن الملك جلجامش (2650 ق م) برّز الكتّاب والفنانون هذا البطل، فقد خلّدوه -الكتّاب- في الملحمة الأسطورية الرائعة «ملحمة جلجامش» كما خلده النحاتون في الأختام الأسطوانية وفي مزهريته الدينية المشهورة التي وجدت باسمه، إن هذه المزهرية الدينية على درجة عالية من التعبير عن موضوعها الدفاعي عن الماشية والدواجن وهي رمز يمثل حماية الملك للمدينة وأهلها وممتلكاتها من الأعداء من بشر وحيوانات مفترسة فها هو يبسط ذراعه على الثور ويطوق رقبته المستهدفة من قبل الأسود ونرى الدواجن قد صعدت فوق ظهر الثور وحوله ودخلت في دائرة حماية جلجامش الأشعث الرأس الأسطوري القوي، وقد برّز النحات ملامح وجهه ولحيته الكثة ويبدو أنه عار ٍ لا يعيقه شيء في نزاله مع الأسود وانه أهلٌ للحماية
هذا التكوين من النحت الناتئ الذي يحدد هذه المهمة الخاصة للبطل جلجامش، وهناك مهام عسكرية وأخرى تعاونية في حادثة الحرب بين سلالة كيش في زمن ملكها «أكا» وسلالة الوركاء في زمن ملكها جلجامش حوالي قد حول أنظار الناس من السلطة الدينية إلى السلطة السياسية التي أدارت هذه الأزمة وانتهت بالصلح مع «اكا» وفكّ الحصار عن مدينة الوركاء.
ومهما يكن فقد أصبح جلجامش في نظر شعبه والأقام التالية بطلاً اسطورياً جمعَ بين السياسة إلى جانب القوة ويقول الدكتورفوزي رشيد «إن قدرة جلجامش السياسية واستعداده لقيادة المحاربين ضد مدينة كيش قد أنقذ مدينة الوركاء ولفت انتباهها وانتباه بقية السلالات الأخرى إلى حاجتهم الفعلية للرجل السياسي والعسكري أكثر من حاجتهم إلى رجل الدين والى طقوسه، ولهذا السبب بدأ الحكم في جميع السلالات العراقية القديمة يتحول تدريجياً من الزعامة الدينية إلى الزعامة الدنيوية (السياسة والدين في العراق القديم-ص14).
ولكن لم يتم في كل الفترات التي تلت بعدها إغفال السلطة الدينية فكان الحاكم السياسي يجمع مابين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
إننا نجد كل الدلائل التي تؤكد دور البطل وتظهر قوته في المنحوتات الناتئة والأختام الأسطوانية وهي دليل خالد في حياة البطل الأسطوري جلجامش حيث تنقل لنا صاعه مع الأسود الضارية المنتشرة في سهول الوركاء والسهول السومرية الأخرى وقد امتدت صناعة الأختام من العصر السومري إلى العصر الأكدي حيث وصلت إلى أوج عظمتها وعندما يستذكرون جلجامش وصديقه أنكيدو يتناولونهم في كثير من المواضيع الأسطورية والواقعية وتظهر لنا ملحمة جلجامش أنهما بطلان لا يقهران اذا اشتبكا مع الحيوانات المفترسة وترينا الأختام التي تناولت البطل جلجامش والتي ظهرت في العهد الأكدي انه إذا اشتبك مع الحيوانات الوحشية كالأسد فإنه يستطيع ليّ ظهره أو خلع أحد اطرافه، وقد جسّد الفنان المسكة القاتلة التي شلت كل حركته وأبطلت مفعول قوته أومزقه أشلاءً مثل ما يحدث مع جاموس وحشي وطأه بقدمه ومسك قرنه تمهيداً لتمزيقه.
أما تفصيل الجسد فقد جعله الفنان يشبه أجساد الرياضيين لعنايته بتفاصيل عضلات اليدين والرجلين، والقوة الظاهرة على تقاطيع وجهه.
هي كلها من خصائص النحت الأكدي الذي نمى باتجاه الواقعية الواضحة والمتجانسة مع الفن السومري وهذا برز في النقش على الأختام الأسطوانية، «والغاية من تناول هذه المواضيع هوالتعبير عن المفاهيم العقائدية واللاهوتية التي ُتعالج من قبْل». (اندري باور- «سومر وفنونها وحضارتها»-ص240 )
لقد استثمر الأكديون ملحمة جلجامش في كل فنونهم وآدابهم بالرغم من موضوع الملحمة كفاحاً لم يعط ثماره لبطل يسعى للحصول على حياة ازلية، وقد تناولت القصائد الأكدية هذا الموضوع وجعلته موضوعاً رئيسياً لكثير من ملاحمهم وقصائدهم الدينية.
ولو أن الملحمة ترينا أن جلجامش لم يحصل في كفاحه على الحياة الأزلية وفقدان الأمل في ذلك الاّ أن الأكديين أصرّوا على تناول الموضوع الملحمي وعمقوه في التاريخ وفتحوا أفقا للحياة والموت وكيف يتصرفون إزاء هذا الموضوع فاقتصروا على الملوك والمخلصين لهم وحجّبوه عن الآخرين وبالأخير يخضع الجميع إلى دورة الحياة إن شاؤوا أم أبوا.
من هنا تصبح ملحمة جلجامش ونهايته غير السعيدة تتكرر في كل الأدوار كرمز للأنسان وكفاحه في الحياة.
إن كثرة هذه الأختام الأسطوانية وتطورها ووصولها إلى درجة عالية من التطور لم يثنِ الأكديين عن نحتٍ ناتئ في هذه الحقبة الزمنية التي حكموا بها، لكن نجد ان المصادر التاريخية التي نستقي منها هذا النحت الناتئ كان قليلاً، أضف إلى ذلك عدم عثور الآثاريين على العاصمة أكد لتفتح لنا خزائنها لمعرفة كثير من المعلومات المعرفية عن الفن الأكدي.
ولكن نرجع إلى القول أن الأختام الأسطوانية التي ظهرت في العهد الأكدي خير دليل على قوة هذا الفن وواقعيته الأخاذة وقوة تعبيره وثراء مواضيعه والأختام الأسطوانية التي تمثل البطل العاري والرجل الثور بوصفهم حماة وهما يقترنان في الغالب بشخصية جلجامش وأنكيدو في الملحمة الشهيرة.
يقول ستين لويد «ولم تثبت صحة هذه العلاقة في الواقع كماان البطل يظل مجهولاً بينما لايمكن ربط الإنسان بالثور إلاّ ربطاً واهياً بشكل (الفون) الوارد في الميثولوجيا المتأخرة. والواقع ان من العبث التعرف إلى جميع الصور الموجودة في الأختام هذه إلاّ بالرجوع إلى الأدلة الأدبية القليلة المتوفرة، اذ ان عدداً كبيراً منها يبدو محضَ وسائل ابتكرت (على الورق) لملء الفراغ ولم تكن اكثر من مجرد نزوة من نزوات الخيال عند صانع الأختام». (فن الشرق الأدنى القديم-ص 108)
ولكنّ المنحوتات والتماثيل المدون عليها اسم الحاكم أو الملك نحتت بدراية منه أضفى عليها صفة القدسية وخصصت للمعبد كقطعة مقدسة لذلك فإن المزهرية المقدسة هي أكثر يقيناً بأنها تمثل المواضيع التي نالت رضى واستحسانَ الملك.
ومزهرية جلجامش تقع تحت اهتمام هذا الموضوع والذي يعنينا في هذه المزهريات المنحوتات الناتئة وتكوينات موضوعاتها، سواءً جاءت بشكل رمزي أو موضوع قصصي كي يعطي معنىً للتقديس.
Leave a Reply