طارق عبدالواحد – «صدى الوطن»
في أوقات الشدة والضيق، يلجأ الإنسان إلى الله جل جلاله كملاذ أخير، ولكن انتشار وباء كورونا على النحو الذي نشهده، أدى إلى إغلاق دور العبادة في مختلف أنحاء المعمورة، الأمر الذي ضاعف من مشاعر العزلة والحصار وقلة الحيلة حتى أصبح التضرع إلى ربّ الحياة والموت، الوسيلة الوحيدة، لا لانقضاء المحنة الأليمة وحسب، بل لانقشاع الغّمة أيضاً، «وما ذلك على الله بعزيز» (فاطر–17).
كان من الطبيعي أن تتضافر دعوات الهيئات الروحية والحكومية، من كافة الأديان والعقائد، إلى إقامة الصلوات لدفع البلاء الذي أودى بحياة مئات الآلاف حول العالم. وفي هذا السياق، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد طالب حكام الولايات بالسماح بإعادة فتح دور العبادة رغم وباء كورونا، معتبراً أن «الكنائس والمعابد والمساجد هي أماكن أساسية تقدم خدمات لا غنى عنها».
وأضاف «في أميركا نحتاج مزيداً من الصلاة لا أقل»، مستنكراً على بعض الحكام تصنيف متاجر الكحول وعيادات الإجهاض كأماكن «أساسية».
وبدأت عدة ولايات أميركية مؤخراً بتخفيف إجراءات العزل، وإعادة فتح الأعمال، ومن بينها المطاعم ومتاجر التجزئة، على الرغم من استمرار تسجيل حالات وفاة نتيجة الإصابة بفيروس كورونا.
لكن إمام «المنتدى الإسلامي في أميركا» في مدينة ديربورن هايتس، السيد حسن القزويني، وصف تصريحات ترامب بأنها «كلمة حق يُراد بها باطل»، وقال: «الرئيس الأميركي يستغل مثل هذه التصريحات لأسباب انتخابية في الدرجة الأولى، ولذلك لا يمكن التعويل عليها إذا كان هدفنا الأساسي هو الحفاظ على سلامة الناس بشكل عام، والمصلين بشكل خاص».
وأكد القزويني بأن «المنتدى» اتخذ قرار الإغلاق بالكامل قبيل فترة وجيزة من إصدار حاكمة الولاية لأمر «البقاء في المنازل»، لافتاً إلى أن الأخبار المنتشرة حول تفشي كورونا في مختلف أنحاء العالم «دفعتنا إلى الإغلاق حرصاً على سلامة المصلين والمرتادين لمركزنا في المناسبات الدينية والفعاليات الأخرى، كالدراسة أو إبرام عقود الزفاف أو الاستشارات أو غيرها».
وأشار القزويني إلى أنه «بدءاً من الأول من حزيران (يونيو)، سيفتح مكتبنا الإداري بشكل جزئي لمدة أربعة أيام في الأسبوع، من الاثنين إلى الخميس، مع مراعاة معايير السلامة وقواعد التباعد الاجتماعي.
وحول تحديد مدى زمني لإعادة فتح «المنتدى الإسلامي» بالكامل، قال: «لن نستبق الأحداث، بخصوص إعادة فتح مركزنا لصلوات الجماعة وصلاة الجمعة، طالما أن حكومة ميشيغن لم تتخذ بعد قرارات خاصة في هذا الشأن»، مشيراً إلى أن المذهب الشيعي يحتم تلاصق المصلين بأجسادهم خلال صلاة الجماعة، وأن التباعد الاجتماعي يحوّل الصلاة من جماعية إلى فردية.
كما أشار إلى أن إدارة «المنتدى الإسلامي» واظبت على التواصل مع الكثير من المراكز الإسلامية في الولايات المتحدة، لاعتماد سياسات حول كيفية التعامل مع وباء الفيروس المستجد، مبيّناً أن النقاشات تضمنت مقترحات لافتتاح المساجد خلال عيد الفطر، وقال: «في نهاية المطاف، ارتأينا مواصلة الإغلاق، لأن الاستعجال في فتح المساجد ليس في مصلحة جالياتنا، كما ارتأينا بأن الجهات المخولة بمواجهة وباء كورونا هي حكومات الولايات، لأنها الأعرف بالواقع السكاني والإمكانيات الطبية والظروف الصحية، ولذلك فنحن نلتزم بما يصدر عن حكومة ولايتنا، التي ماتزال حتى الآن تمنع التجمعات لأكثر من عشرة أشخاص».
والجدير بالذكر، أن حاكمة ميشيغن غريتشن ويتمر كانت قد وجهت وكالات إنفاذ القانون بعدم إصدار مخالفات بحق المراكز الدينية في حال مخالفة أوامر «البقاء في المنازل»، غير أن التزام دور العبادة بإرشادات التباعد الاجتماعي جعلها تغلق أبوابها بشكل طوعي.
وأكد القزويني بأن «الدين ركيزة أساسية في حياة البشر»، منوهاً بأن أداء الفروض بالنسبة للمسلمين «هو واجب أساسي، ولكن لا يتحتم علينا أداء هذه الفروض داخل المساجد فقط، فالدين الحنيف يرخّص للمسلمين رفع صلواتهم في جميع الأمكنة».
من جانب آخر، أكد الشيخ باقر بري أن «المجمع الإسلامي الثقافي» بمدينة ديربورن لم يغلق أبوابه بالكامل رغم فداحة الوباء في منطقة مترو ديترويت، وقال: «صحيح أننا اتخذنا قرار الإغلاق قبل يومين من إعلان الحاكمة ويتمر لأمر «البقاء في المنازل»، لكننا فعلنا ذلك بعد نقاشات مستفيضة بين أعضاء مجلس الأمناء الذي يضم شخصيات وأطباء لديهم صلات مع السياسيين والموظفين الحكوميين، وقد أوصوا جميعاً بضرورة الإسراع في الإغلاق لتفادي انتشار الفيروس المستجد في أوساط جاليتنا».
وأضاف: «رغم ذلك، حافظنا على الاستمرار في تقديم جميع الخدمات، وابتدعنا أساليب جديدة لبث الخطب والمحاضرات الدينية.. ولم يشمل الإغلاق سوى التجمعات الكبيرة، مثل صلوات الجماعة وأسابيع العزاء، وكنا أول مؤسسة دينية تعتمد تقبل التعازي عبر وسائل التواصل الاجتماعي».
ووافق الشيخ بري على أن الصلاة هي فريضة «أساسية» في الدين الحنيف، لافتاً إلى أن إغلاق المساجد لضرورات صحية لا يعني توقف المصلين عن أدائها، وقال: «توقيف صلوات الجماعة في المجمع كان بناء على رخصة شرعية، إذ أن القاعدة الشرعية تقول بأن الضرورات تبيح المحظورات».
وأشار بري إلى أن «المجمع» يفتح أبوابه أمام المراجعين، بناء على مواعيد مسبقة، طوال أيام الأسبوع، من الساعة 12 ظهراً إلى الساعة 6 مساء. وقال: «في الوقت الحاضر، نقوم بالإعداد لمرحلة الافتتاح الكامل بناء على المعطيات الصحية وأرقام الإصابات في منطقتنا، كما أننا نعمل على ترميم فريقنا من الموظفين والمتطوعين، خاصة وأن عدداً كبيراً منهم اضطر إلى المغادرة والبحث عن أعمال أخرى».
بري أكد على أن توقيف صلوات الجماعة وأسابيع العزاء والفعاليات الحاشدة كان هو «القرار الصائب والناجع لتطويق انتشار الفيروس المستجد في أوساط جاليتنا التي تضم نسبة كبيرة من المسنين، إضافة إلى عاداتنا وتقاليدنا المتميزة بطابعها الاجتماعي والحميمي الذي يفرض سلوكيات كثيرة، مثل المصافحة والتقبيل والاحتضان وغير ذلك».
واستدرك قائلاً، ولكن بالرغم من خطورة الأوضاع التي فرضت انعزال الأسر والأفراد داخل منازلهم، إلا أننا واصلنا تقديم الخدمات، طوال الفترة الماضية، وخلال شهر رمضان الكريم وعيد الفطر، كنا نوزع يومياً سلالاً ومواد غذائية على مئات الأسر الفقيرة والمحتاجة.
وفيما يتعلق بخدمات الجنائز، أشار الشيخ بري إلى أن المجمع استأنف إقامة أسابيع العزاء لأعداد محدودة، مع مراعاة معايير السلامة العامة وقواعد التباعد الاجتماعي، مهيباً بأبناء الجالية العربية في منطقة ديترويت بألا يستاؤوا من إرشادات المراكز الدينية وأن يتقيدوا بها. وقال: «في هذا الخصوص تواجهنا مشكلة عويصة تتمثل بعدم الالتزام بالقواعد والأعداد المحددة، ونتمنى على الجميع مساعدتنا في هذا الأمر، ريثما تنقشع هذه الغمة».
وأكد عضو مجلس الأمناء في «الجمعية الأميركية الإسلامية» في الطرف الجنوبي من ديربورن، مهدي صالح، بأن القائمين على «مسجد ديربورن» توصلوا، بعد مشاورات، إلى اتخاذ «قرار احترازي بالإغلاق في 13 آذار (مارس) الماضي»، واصفاً القرار بـ«الحكيم»، لأنه «حمى جاليتنا بشكل فعال من تفشي فيروس كورونا»، على حد تعبير صالح الذي أضاف: «رغم انتشار الوباء بشكل كثيف في منطقة ديترويت، إلا أن حي الساوث أند لم يشهد سوى عدد محدود من الإصابات، إضافة إلى وفاة شخص واحد، في السبعين من عمره».
وتابع بالقول: «لو لم نتخذ ذلك القرار، لأدى الاستمرار في إقامة صلوات الجماعة إلى كارثة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن المسجد كان يؤمه أكثر من 800 شخص خلال صلاة الجمعة»، لافتاً إلى أن «التاريخ الإسلامي قدّم لنا بعض الأمثلة على إيقاف العمل بالفرائض خلال تفشي الأوبئة والأمراض المعدية، كالطاعون وغيره من الأمراض الأخرى».
وأشار صالح إلى أن إغلاق المساجد لا يتناقض مع حقيقة أن العبادات هي أركان «أساسية» يجب على الناس أداؤها، وقال: «لقد أغلقت المساجد في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الحرم المكي الشريف، وهذا لا يتناقض مع تعاليم الدين الإسلامي الذي تبيح شريعته المحظورات في أزمنة الكوارث والمخاطر التي تتهدد حياة البشر وصحتهم». وأضاف: «منطقة ديترويت كانت من أكثر المناطق الموبوءة في ولايتنا وفي أميركا، ولذلك كان من الحريّ بنا، أن نقوم بإيقاف جميع الأنشطة والعبادات التي تستقطب حشوداً كبيرة من الناس».
وأكد على أن الإسلام يبيح إقامة الصلاة في جميع الأماكن، وتساءل: «لماذا الإصرار على أداء الصلاة في المسجد إذا كنا مهددين بالإصابة بهذا الفيروس الذي لم يجد له أطباء العالم مجتمعين علاجاً حتى الآن؟».
ولفت الناشط اليمني الأصل إلى أن القائمين على إدارة المسجد المعروف بـ«جامع ديكس» يتواصلون مع المسؤولين الآخرين في منطقة ديترويت للتباحث حول إعادة الافتتاح الجزئي في منتصف شهر حزيران (يونيو) القادم، وقال: «في إطار الخطة التي نعمل عليها في مسجد ديربورن، فسوف نفتح أبوابنا أمام المصلين بشكل جزئي في المرحلة المقبلة، ولكن مع الإبقاء على إغلاق الحمامات ومرافق الوضوء، ورفع المصاحف من المسجد لضمان عدم تناقلها بين المصلين». وتابع بالقول: «وخلال صلاة الجماعة، سنعتمد معايير التباعد الاجتماعي (ستة أقدام)، وهذا قد يضطرنا إلى إقامة صلاة جمعة إضافية أو أكثر لاستيعاب الأعداد الكبيرة من المصلين، إذ أن مسجدنا يتسع في الأحوال العادية إلى حوالي 800 مصلّ، ولكن مع اعتماد التباعد الاجتماعي ستكون الطاقة الاستيعابية حوالي 200 شخص». وشدد بالقول: «إذا قررنا الافتتاح الجزئي، فيتوجب علينا طرح بدائل مبتكرة لتفادي الاتصال بين مرتادي المسجد، ومن بينها توظيف منظمين على أبواب الجامع، للتحكم بأعداد الداخلين، وغيرها من المسائل الأخرى».
وأشار صالح إلى أن «مسجد ديكس» لم يتوقف عن تقديم الخدمات المعتادة رغم خطورة الوباء والخوف المستشري بين الناس، وقال: «المسجد ظل مفتوحاً لتقديم بعض الخدمات كعقود الزواج والجنائز والخدمات الاجتماعية، كما أننا نواظب على تقديم وجبات غذائية لثلاثة أيام خلال الأسبوع، من الثالثة عصراً حتى الخامسة مساء، للمسلمين ولغير المسلمين على حد سواء».
ونوّه صالح بأن وباء كورونا أثر بشكل كبير على معدل التبرعات التي تعتبر المصدر الأساسي في سداد مصاريف المسجد، وقال «بوصفنا منظمة غير ربحية، كنا مؤهلين للحصول على بعض المنح والقروض بموجب قانون «كيرز» الفدرالي، وقد قام الأخوة في مجلس الأمناء بتحصيل منحة بمقدار خمسة آلاف دولار، ولكنهم رفضوا التقديم لاستحصال أية قروض كونه يترتب عليها فوائد ربوية».
المدير التنفيذي لـ«المركز الإسلامي في أميركا» بديربورن، قاسم علي، أكد أن الولايات المتحدة، كدولة علمانية، «تفصل بين الدولة والكنيسة»، وبالتالي فإنه ليس من صلاحية الحكومة الأميركية –من حيث المبدأ– أن تصنف العبادات الدينية كأعمال «أساسية»، لافتاً إلى أن مجلس أمناء «المركز الإسلامي» بادر إلى إيقاف الأنشطة التي تستقطب أعداداً كبيرة من الناس، كصلوات الجماعة وأسابيع العزاء والفعاليات الحاشدة. وقال: «منذ البداية، أخذنا بعين الاعتبار، الأوامر التنفيذية لحاكمة ميشيغن بـ«البقاء في المنازل»، والالتزام بالقيود التي فرضتها حكومة الولاية على مجمل الأعمال والأنشطة في الولاية».
وأضاف: «لا شك بأن المراكز الدينية تعتبر «أعمالاً أساسية» ولكنها في نهاية المطاف ليست مثل المطاعم والبقاليات أو محطات الوقود، فإغلاق المساجد لن يؤثر بشكل مباشر على حياة المسلمين الذين يمكنهم أداء الصلوات في منازلهم أو في أية أمكنة أخرى، لافتاً إلى أن «جامع فورد» يستقطب عادة، أعداداً كبيرة من أبناء الجالية في فعالياته وأنشطته المتعددة. وقال: «في بعض المناسبات، كان يرتاد مسجدنا أكثر من ألف شخص، وهذا يعني أن الخطر كان سيهدد جاليتنا إذا قررنا الاستمرار بالفتح».
وأشار علي إلى أن «المركز الإسلامي» يواصل تقديم بعض الخدمات الدينية والاجتماعية، مع الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي ومعايير السلامة العامة مثل ارتداء الكمامات والقفازات، والسماح بحد أدنى من الأشخاص لارتياد المركز.
وشدد على أن الأولوية القصوى تتمثل بحماية أرواح الناس وصحتهم خلال هذا الوباء المستشري، مؤكداً عدم وجود خطة آنية لإعادة الافتتاح في القريب العاجل. وقال: «بكل تأكيد لن نفتح بشكل كامل قبل 12 حزيران (يونيو) المقبل». ورجح علي أن تقوم حاكمة ميشيغن بتمديد أمر البقاء المنازل مرة أخرى، إذا لم تشهد أعداد الإصابات وللوفيات انخفاضاً كبيراً في الولاية.
كما لفت إلى أن «المركز الإسلامي» يواظب على مدّ الأسر الفقيرة بالسلال الغذائية، على مدار أيام الأسبوع، وقال: «في 30 أيار (مايو) نستعد لتقديم سلال غذائية لأكثر من 1,500 عائلة، بالتعاون مع بلدية ديربورن ودائرة الشرطة في مدينتنا.
Leave a Reply