من حسن حظي أني أنام وحيدا
فأصغي إلى جسدي
وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم
فأنادي الطبيب قبيل الوفاة بعشر دقائق
وأخيب ظن العدم!!
محمود درويش
لولا أن الموت حق ويدرك الإنسان ولو كان في بروج مشيدة، لصعب علي أن أصدق أن امرأة في مثل نشاطها وحيويتها وحبها للطبيعة والحياة قد رحلت.
وكما يتذكر أي شخص يفقد عزيزا، تذكرتها.
إنها امرأة مولودة تحت برج الصبر. الصبر على الأهل والزوج والأولاد والأحفاد، لكنها ذات إرادة صلبة وعزيمة على احتمال الصعب دوما ومواجهة القدر باللامبالاة.
امرأة توحدت مع الطبيعة، وعاشت أيامها مع الشجر والحجر والتراب التي أحبته وأحبها. رغم كل سنوات الحرب والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، لم تترك منزلها المتواضع وأطلقت عليها القوات الدولية لقب “مسز باور” وذلك لصلابتها وشجاعتها في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي وعملائه ورفضها القاطع للتعاون معهم. وفي مرات عديدة كانت تبقى وحيدة في بيتها ودون أن تطلب مساعدة أحد حتى في أشد المحن وأقساها، وعلى الرغم من ضيق الحال في القرية، ظلت سندا للفقراء والبسطاء في جمع المواسم من الحقول والكروم، تساعد الجميع، صيفا وشتاء، مقابل أجرة بسيطة تتيح لها ولعائلتها الاستمرار بعيش بسيط دون الاتكال والحاجة للآخرين.
أحياناً كانت تقدم أجرها كإعانة لمن في حاجة ماسة، وتعطي طعامها لفقير آخر جائع أكثر منها.
بمحبة تتفقد الجميع وتدخل كل بيوت القرية، وتخرج باحترام، دون نميمة وقيل وقال، ولا غرابة أن أحبها الجميع وخرجوا في جنازتها هذا الشتاء رغم الريح والبرد، وأحزنهم موتها واعتبروه موتا رمزيا لجيل من نساء القرية. النساء الطيبات القانعات الصابرات. بنات الأوادم المؤمنات بالله اللواتي لا يعرفن من الحياة غير بهجة إرضاء الزوج والأولاد، ولا يردن لتلك النعمة تبديلا.
بزهد عاشت لكن بحرية وصلابة وشموخ. عاشت أيامها كما أرادت هي. لم تخضع لإرادة أهل أو أخ أو زوج. وفي كل صباح كان شروق الشمس يناديها لتخرج الى الطبيعة الواسعة لتعمل بجد ونشاط. حتى في عز الشتاء كانت تخرج الى الحقول والكروم دون أن تشكو من وهن أو مرض، كانت صلابة جسدها تخفي شقاءً مختبئاً، وكان يرمقها الجميع بغبطة تقارب الحسد، دون انتباه أحد الى الألم الذي يعتصر روحها.
هذه السنة، سوف يطل نيسان حزينا على “برعشيت” وزهور الدحنون والسكوكع وأعشاب الزعتر والهندباء ستذوي وتذبل بسرعة، وسوف يسكب زهر اللوز دمعاً على تراب وحصى الطرقات التي هجرتها قدماها الطاهرتان في رحلتها الشاقة، حتى أوصلها الموت الى ابنتها التي ماتت ظلما وقهرا، والى حفيدها الصغير حسن، الملاك البريء الذي قضى غدرا في غفلة القدر.
أغمضي عينيك ونامي يا خالتي الحبيبة أم حسين.. نامي قريرة العين عند مليك مقتدر وارتاحي من عناء هذه الدنيا وشقائها.
Leave a Reply