انخفض عددهم من مليون و300 ألف قبل الحرب الى 700 ألف حالياً
مثلما يفعل الرهبان في كل الاماكن، يقوم الأسقف الأكبر بولس فرج رحّو راعي الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في هذه المدينة القديمة بجمع النذور خلال قداس يوم الاحد. لكن لسنوات خلت كانت هذه النذور من الدنانير العراقية المتعددة الالوان تذهب الى مغلف ومن ثم يجري تسليمه الى شخص كان قد هدد الكاهن الكاثوليكي الكلداني وسائر افراد رعيته بالقتل.
«ماذا يمكننا ان نفعل غير ذلك» يسأل غازي رحّو احد اقرباء الكاهن ويضيف شارحاً «لقد حاول حماية المسيحيين».
غير ان المسؤولين العسكريين الاميركيين يقولون الآن «انه مع بداية تحسن الاوضاع الامنية في مختلف المناطق العراقية، فإن الاب رحّو (65 عاماً) توقف عن دفعة «اتاوة الحماية» مما ادى الى نشوء وضع من العنف المرعب والاضطهاد الذي ادى الى هجرة مئات الوف المسيحيين من العراق.
ويقول المسؤولون الاميركيون ان ذلك القرار (وقف الاتاوة) قد يفسر اسباب اختطاف رحّو في شهر شباط (فبراير) الماضي.
بعد مرور اسبوعين على جريمة الاختطاف، عُثر على جثة الكاهن رحّو مدفونة في حفرة خارج مدينة الموصل.
ويعتبر الاب رحّو من بين ارفع المسيحيين العراقيين الذين يقضون بسبب الحرب في العراق، وقد نعاه الرئيس جورج بوش والبابا بنيد كتوس السادس عشر قبل الاعلان عن دوره الحيوي في توفير الحماية لمسيحيي بلده عبر جمع الاموال من الكلدان المسيحيين العراقيين ودفعها لـ«المتمردين».
ويقول مسؤولون عسكريون اميركيون ومسيحيون عراقيون إن تلك الاتاوات المالية استمرت من عام 2005 الى عام 2007 ونمت لتشكل مصدر تمويل للجماعات الارهابية وظلت سراً ومصدر تعقيد لحياة المسيحيين العراقيين الذين يتحدثون عنها اليوم بصورة اكثر انفتاحاً، مع انحسار مستوى العنف كثيراً عن السنة الاولى من الحرب.
«الناس ينكرون هذا الامر، ويقولون انه معقد جداً. ولا احد في المجتمع الدولي يفعل شيئاً إزاءه..» يقول كانت اندرو وايت النائب الأسقفي الانغليكاني في بغداد، ويضيف ان تعقيد هذه القضية اكثر كان يتأتى من حقيقة ان «اموال الحماية» اتت من تبرعات جمعها المسيحيون في الخارج لمساعدة اخوانهم من مسيحيي العراق..
من جهته يقول يونادام كنّه النائب الكلداني المسيحي: «جميع مسيحيي العراق دفعوا الاموال».
لاكثر من 1000 عام سكنت منطقة الشمال العراقي مجموعات دينية وعرقية مختلفة: تركمان، اكراد، يزيديين، سنّة وشيعة عرب ومسيحيين آشوريين يشكل الكلدانيون الشريحة الاكبر منهم.
ومنذ زمن النبي محمد ابدى المسلمون في بلدان الشرق تسامحاً تجاه ذلك التنوع وفرضوا ضريبة خاصة على اليهود والمسيحيين كانوا يدعونها «الجزية». وهذا هو الاسم الذي اختاره «المتمردون» لممارسة ابتزاز المسيحيين على طريقة العصابات المنظمة.
ويقول مسؤولون إن «الضريبة» يمكن ان تصل الى مئات الدولارات في الشهر الواحد عن كل فرد ذكر من افراد العائلة. وفي حالات كثيرة اضطرت عائلات مسيحية الى انفاق مدخرات عمرها والرزوح تحت الديون من اجل تسديد «الضريبة».
وقام «المتمردون» ايضاً بجمع الاموال من خلال عمليات اختطاف كهنة. وغالباً ما كانت الرعية تدفع فدية لاطلاق سراح الكاهن المخطوف تصل احياناً الى 150 ألف دولار اميركي، حسبما افاد كهنة ومسيحيون آخرون.
وفي مفارقة لافتة اضحت هذه المدينة (الموصل) التي ظلت لقرون طويلة معقل المسيحية في بلاد الرافدين، تعرف «بآخر قلاع المتمردين السنّة» وما يزيد من ألم المفارقة هو ان الكثير من مسيحيي العراق الـ700 الف الباقين دفعوا الأموال ثمن الحفاظ على حياتهم مع علمهم التام ان تلك الاموال سوف تستخدم لشراء قنابل واسلحة اخرى لقتل آخرين.
رئيس الأساقفة رحّو كان رجل كنيسة يدعو الى السلام من خلال مواعظة الدينية، فكيف دفع الى القيام بدور توفير الاموال الى الارهابيين يبقى سؤالً معقداً. غير ان جزءاً من الاجابة يكمن في تدهور السياسة في شمال العراق في ظل الاحتلال الاميركي.
ظل الشمال العراقي بكل اطيافه الاثنية والدينية هادئاً في البداية. لكن هجوم مشاة البحرية الاميركية في العام 2004 على مدينة الفلوجة، غربي بغداد ارغم زعماء المجموعة السنية المتمردة المعروفة بإسم «القاعدة في ارض الرافدين» على التحرك شمالاً، مما حوّل تلك المنطقة الى مسرح للرعب والفوضى والقتل. وبدأ المسيحيون هناك الذين ينظر اليهم كـ«حلفاء للغزاة، الاميركيين، يتعرضون لهجمات انتقامية. وبدأت رسائل التحذير: «إما المغادرة أو الموت» تلصق على اعتاب منازلهم.
تقول روزي مالك – يونان، مؤلفة كتاب «الحقل القرمزي» وهو رواية تاريخية تصف المجازر التي تعرض لها الآشوريون بين اعوام 1814- 1918، خلال الحرب الكونية الاولى، في ظروف مشابهة لما يدور حالياً، «في كل مرة تذهب البلدان الغربية الى حرب في الشرق الأوسط تصبح حرباً دينية».
واتهمت يونان التي ادلت بشهادة حول قضية سلامة المسيحيين في العراق في جلسة استماع امام الكونغرس الاميركي العام 2006، القوات الاميركية بالفشل في حماية المسيحيين انطلاقاً من هواجس لديها بأن إيلاء عناية خاصة لهذه الاقلية قد يخدم الحرب الدعائية التي يشنها المتمردون ضد الاحتلال الاميركي.
وعوضاً عن قيام القوات الاميركية بمهمة حماية الاحياء والمناطق المسيحية في الموصل والقرى المحيطة بسهل نينوى تولت هذه المهمة ميليشيا البشمركة الكردية، ولاحقاً وحدات من الجيش العراقي يغلب عليها الطابع الكردي. غير ان الاكراد لهم اجندتهم الخاصة المتمثلة يتوسيع حدود رقعة مناطقهم وهم قاموا لاجل ذلك بالاستيلاء على خمسة اقضية متنازع على «سيادتها» في محافظة نينوى، من ضمنها قضاءان تميزا بالوجود المسيحي التاريخي.
الآنسة مالك – يونان ومسيحيون آشوريون آخرون وخبراء اتهموا القادة الاكراد العسكريين بحرمان المسيحيين من الامن في جهد يهدف الى تعديل الموازين الديموغرافية لصالحهم. وتقول يونان ان النتيجة المتوقعة كانت موجات نزوح بمئات الالوف من المسيحيين الى خارج العراق. وثمة «مئات» على اقل تقدير قتلوا من بينهم كاهن اعدم بقطع الرأس.
المسؤولون الاكراد ينفون اخفاقهم في حماية المسيحيين. «القوات الكردية العراقية في الموصل تقوم بمهامها دون اي تمييز بين الاديان او المذاهب او القوميات..» يقول محمد احسان وزير «الشؤون الفوق الاقليمية» في حكومة كردستان الاقليمية.
لكن عدد السكان المسيحيين في العراق انخفض من مليون و300 الف الى 700 الف حالياً. والذين بقوا منهم واجهوا خياراً اخلاقياً مراً.
فما اطلق عليه اسم «الجزية» كانت اموالاً تجمع وتدفع من قبل زعماء اليهود والمسيحيين للمتمردين العاملين على الضفة الغربية لنهر دجلة والاسقف رحّو، بحسب النائب المسيحي كنّه قام بتسديد الاموال باسم المسيحيين الذين يقطنون في الاحياء الشرقية لمدينة الموصل.
لقد كان اختياره لهذه المهمة «بديهياً»، فهو امضى معظم حياته في الموصل وكان ذائع الصيت.. لقد كان «صلة الوصل..».
اما غازي رحّو، قريب الأسقف الضحية فيصف دوره بـ«الاقل مركزية» ويشدد على الحياة والموت لخيار دفع الاموال من اجل انقاذ حياة ابناء الرعية.
وبالتأكيد لم يكن الاسقف رحّو الشخص الوحيد الذي دفع المال.
«كلنا دفعنا» يقول احد كهنة المسيحيين الاشوريين الاورثوذكس الذي اشترط عدم ذكر اسمه خوفاً من الانتقام على ايدي المتمردين، .. «لقد كنا خائفين..».
ويقول الكاهن الاشوري ان شخصاً عرف عن نفسه باسم «ابو حريثة والذي قال احياناً انه يمثل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين قام باجراء الاتصالات التلفونية التي كانت تحمل تهديدات بالقتل: «لقد قال: انني بحاجة الى المال. واذا لم تعطونا المال سوف اقتلكم».
ويقول هذه الكاهن انه دفع عشرة ملايين دينار عراقي (حوالي 8000 دولار اميركي) خلال السنوات الثلاث الماضية وحتى الشتاء الاخير عندما شددت القوات الاميركية قبضتها على مدينة الموصل.
وخلال المعارك التي شهدتها مدينة الموصل الشتاء الماضي، سرت انباء بأن القوات الاميركية قتلت «ابو حريثة». وقد استخدم العديد من زعماء الكنائس مقتل هذا المسؤول للكف عن دفع الاموال، ومن بين هؤلاء على الارجح الاسقف رحّو الذي ادلى بحديث متلفز في شهر كانون ثاني (يناير) ادان فيه دفع الاموال وقال انه يجب ان يتوقف.
بعد مضي شهر، وفي 92 شباط (فبراير) اختطف الاسقف رحّو على ايدي مسلحين بعد انتهائه من الصلاة في «كاتدرائية الروح القدس» بعدما اطلقوا النار على سائقه واردوه مع اثنين من الحراس ثم قاموا بدفعه الى صندوق السيارة التي كانوا يستقلونها. وقد نجح الاسقف رحّو في الخفاء في استخدام هاتفه النقال والاتصال بالكنيسة، طالباً الى المسؤولين فيها عدم دفع اية فدية من شأنها تمويل العنف حسبما افاد هؤلاء المسؤولون.
غير ان العقيد ايريك برايس وهو مستشار الوحدات العسكرية العراقية في شرقي الموصل، قال ان الاسقف رحّو الذي كان يعاني من مرضى السكري، قد قضى على الارجح نتيجة النقص في الدواء وقبل ان يجري التفاوض على امكانية اطلاقه.
احد المقاتلين العرب ويدعى احمد علي احمد، الذي تصفه السلطات العراقية كعضو من اعضاء القاعدة في بلاد الرافدين، جرى اسره لاحقاً وحوكم وحكم عليه بالاعدام في قضية خطف وقتل الاسقف رحّو. غير ان النائب كنّه يقول ان احمد كان مجرد اداة نفذت الجريمة ولكن المخططين لها لم ينالوا عقابهم.
في الواقع، لقد جرى الاتصال بالكنيسة من اجل دفع فدية والثمن المطلوب كان مليون دولار ثم ارتفع الى مليونين.
عن «نيويورك تايمز»
(ترجمة عدنان بيضون)
Leave a Reply