المزاج المسيحي ليس مع الغرب بل مع دور مشرقي حدده السينودس
لم تثر زيارة قام بها مسؤول أو سياسي لبناني إلى الخارج، كتلك التي قام بها رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولأسباب سياسية تتعلق بأن الدولة التي يلبي دعوتها، هي من «محور الشر» وفق التصنيف الأميركي، والتي تزعج الإدارة الأميركية وحلفاءها في لبنان والمنطقة، ويعتبرون أن الزعيم الأكثر تمثيلاً للمسيحيين في لبنان، انحرف بهم عن تراثهم ومزاجهم الشعبي وتاريخهم السياسي، لإنهم كانوا دائماً يتطلعون نحو الغرب ويحاولون التمثل بالحضارة الأوروبية خصوصاً، والغربية عموماً، وهم سياسياً أقرب إلى المحور الغربي منهم إلى المحور الشرقي وهم كانوا فيه أثناء الصراع الذي كان دائراً زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وفي التنافس بين النظامين الرأسمالي والشيوعي، وما زالوا على خيارهم السياسي.
فالمسيحيون في قوى 14 شباط، الذين يسيرون في ركاب المشروع الأميركي للمنطقة ومن ضمنها لبنان، ويريدون الدور المسيحي في الشرق تابعاً للغرب وسياساته، وهذه نظرة انعزالية عن القضايا العربية التي تنبه لها «السينودس» الخاص بلبنان، ودعا مسيحييه ليؤكدوا انتماءهم إلى مشرقهم العربي وإلى الشرق الأدنى، وليلعبوا دور الرسالة فيه، وهو ما لم تعمل به البطريركية المارونية في لبنان وانحرفت باتجاه الغرب، فلم يقبل البطريرك نصر الله صفير أن يكون في استقبال البابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته لسوريا مطلع القرن الواحد والعشرين والتي اعتبرها مهد المسيحية، وبذلك أبلغ صفير رأس الكنيسة الكاثوليكية، أن مسيحيي لبنان يتطلعون إلى الغرب، وهذه نظرية كانت السبب وراء الانقسام بين اللبنانيين حول هوية لبنان وانتمائه العربي، إذ ثمة من يرى من المسيحيين أن لبنان أنشئ لهم في العام 1920 على يد الجنرال غورو باسم الاستعمار الفرنسي، للحفاظ على كيانهم الديني في الشرق، وهي الفكرة نفسها التي جاء بها وزير خارجية بريطانيا ارثر بلفور بوعده بإقامة دولة يهودية في فلسطين.
لذلك جاءت زيارة العماد عون إلى إيران انطلاقاً من هذا الفهم لدور المسيحيين في الشرق من خلال تعزيز الصداقة مع هذه الدولة التي وقفت منذ انتصار «الثورة الإسلامية» فيها إلى جانب العرب في الدفاع عن فلسطين واستعادة حقوق الفلسطينيين باسترجاع أرضهم والعودة إليها، وهذا ما ركّز عليه رئيس «التيار الوطني الحر» في الإعلان عن أسباب زيارته إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي هي ليست عدوة لبنان، بل عدوة عدوّه الإسرائيلي، وأصبحت إلى جانب قضايا العرب، وهي بهذا المعنى تمثل العروبة فعلياً عندما تتبنّى من يمثّل خطراً عليهم وعليها وهي إسرائيل التي لها مشروعها التوسعي الاستيطاني، الذي لم يعد بعض العرب الذين تسميهم أميركا معتدلين، يطرحون حق العودة للفلسطينيين أو استعادة القدس، في وقت خصص الإمام الراحل الخميني يوماً للقدس في آخر يوم جمعة من آخر أسبوع من شهر رمضان، ورفع شعارات العداء لإسرائيل، وقد تبنى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مقولة أنها دولة إلى زوال، لأنها كيان مصطنع.
فمن هذه المنطلقات تبدو زيارة العماد عون إلى إيران في سياق فهمه وقراءته للموقع الاستراتيجي الذي تحتله هذه الدولة الإقليمية العظمى المؤثرة في المنطقة، وهي لها دور كبير يحمي لبنان من الخطر الإسرائيلي، وقد ظهر ذلك جلياً في الدعم الذي تلقته المقاومة في أثناء مواجهتها مع الاحتلال الإسرائيلي وتحريرها للأرض، أو في الصمود بوجه الحرب المفتوحة التي شنتها إسرائيل بقرار أميركي على لبنان في صيف 2006، وخرجت المقاومة منها منتصرة وإسرائيل مهزومة وفشل المشروع الأميركي في إقامة ما سماه صاحبه جورج بوش «بالشرق الأوسط الجديد» الذي بشّرت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس بولادته على حساب دماء اللبنانيين ودمار لبنان.
ولأن المشروع الأميركي للمنطقة في مضمونه يهدف إلى تهجير المسيحيين، وهو ما نبّه إليه عون منذ فترة بعيدة، وأبدى قلقه لما يحصل لمسيحيي العراق من تهجير، بعدما طُرد المسيحيون من فلسطين ومحاولة ترحيل المسيحيين في لبنان عبر مشروع هنري كسينجر في السبعينات، وكل ذلك على مرأى ومسمع الأميركيين وحلفائهم في الغرب،وقد ذهب رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير» للقاء المسؤولين الإيرانيين للبحث معهم في الحفاظ على مسيحيي الشرق، بدءاً من العراق التي لإيران نفوذ فيه.
فعون الذي خبر السياسة الأميركية في المنطقة، لا سيما بعد عودته إلى لبنان، واكتشافه مشروعها التقسيمي، وكيف هي تعمل لضرب المسيحيين وإضعاف دورهم، سار عكس هذه السياسة وذهب إلى «حزب الله» وعقد تفاهماً معه، كان صدمة للمسؤولين الأميركيين الذين كانوا بتدخلهم في لبنان، يريدون رأس المقاومة، ولم يفعل عون ذلك وقد أدرك أن هذا الطلب يعني حرباً أهلية، وقرر من خلال الوثيقة التي صاغها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، الحفاظ على المقاومة واستخدامها احتياطاً استراتيجياً للبنان في الدفاع عنه مع الجيش اللبناني، وقد أزعج هذا التفاهم الإدارة الأميركية التي رأت أن عون شذ عن القرار 9551، الذي كان يريد منه خروج القوات السورية فقط، فبدأت الحملة عليه من الفريق الذي كان معه في 41 آذار ورأوا أنه خان مبادئ «ثورة الأرز»، وهو يعاكسهم لأنهم يستبدلون وصاية سورية بأخرى أميركية وسعودية، وأن نظرته للعلاقة مع سوريا تختلف عن نظرتهم، فهو مع استعادتها إلى طبيعتها، وهم مع إسقاط النظام فيها تنفيذاً لأحقاد دفينة عند وليد جنبلاط، وعلى اتهامات غير مبررة عند سعد الحريري حول جريمة اغتيال والده رفيق الحريري.
لذلك جاءت زيارة رئيس «التيار الوطني الحر» في سياقها الطبيعي، وهي حق لكل سياسي أن يطلع من الدول على سياساتها، وهو لبى الدعوة كما سواه من المسؤولين اللبنانيين الذين تلقوا دعوات إلى إيران، ومنهم قوى وشخصيات سياسية وحزبية في 14 شباط، كالبطريرك نصر الله صفير والرئيس أمين الجميل، وسبق أن قام أطراف يعارضون الزيارة وينتقدونها كالنائب وليد جنبلاط، بزيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سنوات ماضية مرات عديدة وتلقوا دعماً منها، وقد اقامت مؤسسات تربوية واستشفائية في الجبل لحساب «مؤسسة العرفان» التي يرأسها الشيخ علي زين الدين، إضافة إلى ما كان يتقاضاه الحزب التقدمي الاشتراكي شهرياً من دعم مالي.
والذين يحملون على عون لزيارته إيران، فقد فاتهم أن الرئيس كميل شمعون المسيحي الماروني أقام علاقات معها زمان حكم الشاه، ولكن كانت مبررة لأنه كان يجمعهم الحلف الأميركي آنذاك المعروف بـ«حلف بغداد» و«مشروع ايزنهاور»، وكانت تربطها صداقة مع إسرائيل. أما العماد عون ممنوع عليه زيارة إيران التي تقف بصف العداء لأميركا وتعتبرها «شراً مطلقاً»، وهذا هو السبب الذي يدفع مسيحيي 14 شباط للقيام بحملتهم على زيارة عون، كما أن مسلمي 14 شباط، كالحريري وجنبلاط، ينتقدون عون لأنه مس بالسعودية وحذر من «البترودولار» الذي تدفعه لهم لخوض الانتخابات النيابية.
Leave a Reply