عباس الحاج أحمد
كان اليوم الانتخابي في ديترويت وضواحيها صاخباً كصخب الأفكار المُتصارعة في عقل الناخب. أفكار تبدأ بالكورونا وتنتقل إلى شيكات الدعم الاقتصادي، الرعاية الصحية، ملفات الهجرة، العنصرية، فلسطين، السياسة الخارجية وغيرها. تتعدد الملفات ومعها الأسباب التي تُحرك الناخب العربي–الأميركي.
الأميركيون من أصول عربية ينتشرون في كل الولايات ويشكلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني في بلاد العم سام. وكما هو الشارع الأميركي منقسم حول معظم القضايا السياسية والاجتماعية فإن هذا الانقسام ينطبق أيضاً على الشارع العربي الأميركي.
وإذا كانت مقاطعة وين في ولاية ميشيغن، والتي تضم ديترويت والديربورنين وهامترامك ومدناً أخرى، تحتضن أكبر تجمع للعرب الأميركيين في الولايات المتحدة. فإن ناخبي لغة الضاد لعبوا دوراً حاسماً في إعلاء اللون الأزرق الديمقراطي، ليس فقط على مستوى المقاطعة وإنما على صعيد الولاية بأكملها.
لكن في المقابل، مقاطعة «ماكومب» مثلاً، انقلبت «حمراء» منذ انتخابات 2016، ومازالت وهي أيضاً تضم جالية كلدانية عراقية وأخرى عربية–مشرقية متنوعة.
يحتك المواطن العربي–الاميركي مع المواطن الأميركي الأبيض والأميركي ذي الأصول اللاتينية والهندية والأفريقية والأيرلندية والشرق آسيوية وغيرها.
إثنيات متعددة تتشابك بالألوان الزرقاء والحمراء على درب الحلم الأميركي الذي يبدأ بصوت في صندوق الاقتراع، حيث يمكن للأقليات أن تلعب دور «بيضة القبان» أو «الفراشة التي تحدث العاصفة» في تحديد هوية الرئيس ومستقبل البلاد، كمثل بيدق الجندي على رقعة الشطرنج الذي يمكنه الوقوف بوجه الملك، ويقول له: «كشّ».
لنسير الآن بأقدام الجنود الصغار، ونستخلص الداتا –كما تفعل شركات الإحصاء الميداني.
نعود إلى صباح اليوم الإنتخابي. الطقس كان مشمساً ومُفعماً بالطاقة في مدينة ديربورن وجوارها. لا صوت يعلو فوق الحديث عن الانتخابات. رائحة القهوة تملأ الأجواء. تعانقها رائحة «المناقيش» المنبعثة من أحد الأفران… لافتات انتخابية في كل مكان.. على الطرقات والمباني والسيارات وبأيدي المندوبين والمتطوعين أمام المدراس (مراكز الاقتراع).
مشاهد رصدتها عن كثب أثناء تغطيتي لفعاليات اليوم الانتخابي الطويل.
وصلت إلى مدرسة «أوكمان»، في شرق ديربورن بمحاذاة ديترويت. المنطقة عربية خالصة تقريباً.
التقيت بجاري الذي يشبه رجال «الكاوبوي» ولكن بالنسخة العربية–الشرقية. قال لي: «انتخبت ترامب، فهو الأفضل اقتصادياً. هو أيضاً: ذكر وقبضاي، ركّع الصين». مضيفاً: «لو يستطيع ابني المراهق الاقتراع، لكان انتخب ترامب، أيضاً».
داخل المدرسة، تسير الإجراءات بهدوء تام. هدوء يتناقض كلياً مع التحذيرات بشأن إمكانية حدوث أعمال استفزاز وشغب، خاصة بعدما لجأت عدة مؤسسات تجارية إلى الإغلاق بوضع الألواح الخشبية على الأبواب والنوافذ، مثلما فعل متجر «مارشلز» على شارع ميشغن أفنيو في غرب ديربورن.
داخل المدرسة، ترحب رئيسة القلم بأية وسيلة إعلامية، شرط عدم التأثيرعلى الناخبين أو استفزازهم. التقط زميلي المصور عماد محمد بعض الصور التي تظهر الطوابير وآلية الاقتراع. ثم خرجنا لنرصد أجواء المتطوعين في الحملات الانتخابية فكان أغلبهم مندوبين في حملات المرشحين لعضوية مجلس ديربورن التربوي، فضلاً عن متطوعي اللجان السياسية العربية، مثل «أيباك».
التقيت بـ«أم محمد»، التي صوتت لبايدن، فقالت: «أخبروني بأن بايدن سيُسهل قدوم إبني الى أميركا».
قاربت العديد من العائلات العربية خيارها السياسي بناءً على سياسات الهجرة بالدرجة الأولى. فمعظم العائلات هنا، كباقي الأقليات المهاجرة، تنتظر دائماً قريباً أو حبيباً وافداً من البلد الأم.
لكن ذلك لا يعني غياب النقاش حول القضايا السياسية والاقتصادية العامة، بين مؤيد لـ«اشتراكية ديمقراطية» أو «رأسمالية مُعتدلة»، أو رافض لـ«اليمين المتطرف» أو الأفكار الـ«نيوليبرالية الراديكالية».
تختصر أم محمد, وجاري «الترامبي» الهوى, الصراع الديمقراطي–الجمهوري، بمن يستطيع أن يأتي بابني إلى هنا أو من يسهل شيكات دعم المواطن في ظل أزمة الكورونا.
رصد الناخبين بمحيط أقلام الاقتراع في بداية اليوم الانتخابي، دفعني للشعور بالدهشة من «الأكثرية الصامتة» التي صوتت لترامب. فاعتقدت بأن «موجة حمراء» كبيرة قادمة إلى ميشغن، بل إلى ديربورن، رفضاً لحملات «شيطنة» الرئيس الجمهوري من معظم وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية. لكنني لمست أيضاً شعوراً بالخوف والحذر لدى أنصاره الذين أبدوا تردداً كبيراً في الإفصاح عن تأييدهم للرئيس.
اقترع بعض المواطنين بناءً على إرشادات أبنائهم وأقاربهم. البعض الآخر انتظر حتى اللحظات الاخيرة، قبل أن يحسم خياره بناء على ما تابعه خلال اليوم الانتخابي. تنقلت بين عدة مدارس من «مكدونالد و«وليام فورد» الى «سالاينا» ومبنى البلدية، مروراً بمتابعة نقاشات فايسبوكية وتلفزيونية متنوعة. لفتني نقاش ما بين أميركيين من أصول لاتينية في فلوريدا. فقد صوتوا لترامب بعدما رأووا مشاهد مشابهة لما حصل في كوبا وهندوراس، من شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة مترافقة مع أعمال شغب بوجه الشرطة أثناء مظاهرات «حركة السود مهمة». بعضهم قال: «لقد رأيت أحداثاً هربت منها في بلدي الأم، مظاهرات تُطالب بالعدالة وتنتهي ب ديكتاتور يزيدنا فقراً و جوعاً وانغلاقاً». في المقابل، رد عليه البعض بأن ترامب رمز العنصرية وقد أعاد أفكار تفوق العرق الأبيض إلى واجهة البيت الابيض.
أحد الأطباء العرب عبّر لي عن هواجسه كأب لخمسة أطفال من الأفكار اليسارية التي يتبناها الديمقراطيون، منتقداً «النيوليبرالية» بقوله: «إنهم يريدون تدمير فكرة العائلة، فكيف لنا أن نبني مجتمعاً أفضل دون أن نحمي نواة المجتمع؟».
وأضاف: «أنا لست مؤيداً لترامب، ولكنني الآن أقرب إلى الحزب الجمهوري المحافظ. أريد أن أحمي عائلتي من التفكك والضياع».
تعلو أصوات الديمقرطيين العرب تحت عناوين التنوع وحماية الحريات والمشاركة في «صنع القرار».
فقد وُعدنا بـ«مقعد على الطاولة» حين زارتنا زوجة بايدن، الدكتورة جيل، التي تذوقت البقلاوة اللذيذة من «حلويات شاتيلا» على شارع وورن الذي زارته أيضاً المرشحة لمنصب نائب الرئيس، السناتورة كامالا هاريس، التي تناولت وجبة غداء من «مطعم خلف».
وجد العرب في الزيارتين اهتماماً ديقراطياً، بقطعة البقلاوة واللحمة المشوية على نار الجذب الانتخابي تحت ألوان «قوس القزح» الحامي للتنوع.
لكن ذلك لم يرق للكثيرين من أبناء جاليتنا من أنصار ترامب والجمهوريين الذين يتهمون الديمقراطيين باحترام التنوع بـ«الشكل» لا «المضمون».
أُقفلت صناديق الاقتراع وبدأت النتائج بالظهور تباعاً حيث بدا أن ترامب وحزبه الأحمر سيكتسحون ميشيغن، قبل أن تبدأ الأصوات الغيابية بالتدفق بأرقام لم يكن يتوقعها أحد، فانقلب السباق رأساً على عقب صباح اليوم التالي لصالح بايدن، الذي بلا شك نال أغلبية أصوات الناخبين العرب بالرغم من تحفظاتهم الكثيرة عليه، لاسيما من أنصار السناتور بيرني ساندرز.
في المقابل لا يمكن إغفال الشعبية المتزايدة للرئيس ترامب بين العرب والأميركيين عموماً، بعدما حصد نحو 72.5 مليون صوت على مستوى الولايات المتحدة، بزيادة ناهزت عشرة ملايين صوت عن رصيده في انتخابات 2016.
عشرة أيام مرت ولم تتضح الصورة بعد. نتنقل ما بين أخبار الميدان والعالم الافتراضي علّ المشهد يكتمل. دونالد ترامب والجمهوريون يغزون المحاكم بالدعاوى القضائية للطعن بالنتائج المعلنة، بينما ينشغل جو بايدن بتشكيل إدارته العتيدة.
وبانتظار المشهد الأخير من الفيلم غير المكتمل، يزداد يقيني من شيء واحد على الأقل، وهو أن هذه البلاد، عظيمة جداً بقوانينها ودستورها، فلنحافظ عليها!
Leave a Reply