مرّةً أخرى، ستكون المنطقة العربية، في حقبة رئاسة ترامب، حقل تجارب لمشاريع إقليمية للولايات المتحدة الأميركية تستهدف دول منطقة «الشرق الأوسط». فبعد مرحلة إدارة الرئيس جيمي كارتر (الديمقراطي) التي كرّست في معاهدات «كامب ديفيد» نتائج ما بدأه هنري كيسنجر (في فترة الرئيس فورد الجمهوري) من اتفاقيات بين مصر– السادات وإسرائيل، جاءت فترة إدارة ريغان الجمهورية والتي وافقت على غزو إسرائيل للبنان ولأوّل عاصمة عربية وإخراج قوات «منظّمة التحرير الفلسطينية» منها. ثمّ كانت فترة جورج بوش الأب (الجمهوري) التي رعت «مؤتمر مدريد» في مطلع عقد التسعينات ليكون مقدّمة لـ«سلام عربي–إسرائيلي» شامل يتضمّن تطبيعاً للعلاقات بين كلّ العرب وإسرائيل، وفق مقولة «شيمون بيريز» عن «الشرق الأوسط الجديد». وفي هذه الحقبة الزمنية: عقد التسعينات، وتحت رعاية إدارة بيل كلينتون الديمقراطية، وقّعت إسرائيل اتفاقية أوسلو مع «منظّمة التحرير» ومعاهدة السلام مع الأردن، وفشلت محاولات عقد معاهدات مع كلٍّ من سوريا ولبنان.
وجاء القرن الحادي والعشرون ليضع الولايات المتحدة، لأوّل مرّة بتاريخها، في موقع المحتلّ لبلدٍ عربي، حينما استغلّت إدارة بوش الابن (الجمهورية) ما حدث من أعمال إرهابية في أميركا لتبرير غزوها للعراق، ومحاولة تغيير عموم منطقة الشرق الأوسط بالمزج بين الوجود العسكري الفاعل فيها وبين حروب إسرائيل على رام الله وغزة ولبنان، طيلة فترتيْ حكم بوش الابن وحتّى نهاية العام 2008.
وما ميّز إدارة أوباما (الديمقراطية) عن سابقتها الجمهورية المحافظة هو تجنّب توظيف الدور الإسرئيلي في تحقيق مشروع أوباما للمنطقة، والذي راهن على تغيير سياسي في المنطقة من خلال دعم ما سُمّي باسم «الربيع العربي»، فكانت النتائج وخيمة على كل المنطقة، وأيضاً راهن أوباما على الفصل بين السعي لتحقيق «الدولة الفلسطينية» وبين صراعات الإقليم، ولم ينجح في ذلك بسبب مواقف حكومة نتنياهو.
وفي كلّ هذه الحقب الرئاسية الأميركية الممتدّة منذ عهد ريغان، كان «الملفّ الإيراني» حاضراً بأشكال مختلفة ابتداءً من الحرب العراقية–الإيرانية وصفقات «إيران–كونترا»، وصولاً إلى توقيع الاتفاق الدولي مع طهران بشأن ملفّها النووي، ومروراً بعلاقة إيران مع قوى لبنانية وفلسطينية مقاومة لإسرائيل ومع الحكم السوري منذ حدوث الثورة الإيرانية في العام 1979.
أيضاً، كان واضحاً في محصّلة ما يُقارب أربعة عقود زمنية أنّ كل رئيس أميركي كان يبني في سياسته بمنطقة «الشرق الأوسط» على نتائج ما تحقّق في إداراتٍ سابقة، لكن مع رؤية جديدة تحاول كل إدارة أن تفرضها على دول المنطقة، وبأنّ محصلة هذه المشاريع هي دمار وقتل وصراعات في بعض دول الإقليم، لكن دون نجاحٍ كامل للرؤى الأميركية، ودون قدرةٍ على هزيمة القوى المعارضة لهذه الرؤى أو المشاريع.
وتشهد واشنطن الآن حركة دبلوماسية مهمّة لها علاقة بمصير عموم منطقة «الشرق الأوسط»، وقد أشار ترامب إلى وجود مشروع إقليمي يعمل على إعداده جاريد كوشنر زوج ابنته، يتجاوز مشاكل «الملفّ الفلسطيني» ويتعامل مع قضايا المنطقة كلّها.
ورغم عدم الإعلان بعد، عن تفاصيل مشروع إدارة ترامب، فإنّ عدّة عناصر تؤشّر إلى أنّ هذا المشروع سيحاول الدعوة إلى مؤتمر إقليمي– دولي، ويحضره ممثلون عن إسرائيل وتركيا وحكومات عربية، إضافةً إلى روسيا والصين والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإسلامية، وبأن يكون جدول العمل شاملاً لعدّة قضايا ساخنة بالمنطقة؛ كالمواجهة مع التنظيمات الإرهابية، ومصير الصراع والحلّ السياسي في سوريا، ومستقبل الموصل/العراق بعد إنهاء دولة «داعش»، والأزمتين اليمنية والليبية، والملفّ الفلسطيني طبعاً، بحيث يجمع جدول العمل بين الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية ومسائل إعادة الإعمار واللاجئين، وبحيث أيضاً تزداد وتيرة «التطبيع» العربي مع إسرائيل قبل تحقيق هدف إقامة «الدولة الفلسطينية»، وبحجّة أولوية المواجهة مع الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة!
وإذا صحّت هذه التقديرات عن طبيعة المشروع الترامبي لمنطقة «الشرق الأوسط»، فإنّ هناك حاجة أميركية لضمان موافقة موسكو وبكين عليه، إضافةً لحلفاء واشنطن الأوروبيين والإقليميين، وهو حتماً ما يتمّ بحثه الان مع كلّ هذه الجهات المعنيّة. لكن ما هو من غير الواضح بعد كيف ستتعامل إيران مع مشروع كهذا في حال حصوله، خاصّةً في ظلّ استمرار التهديدات الأميركية والإسرائيلية لها وعدم حصول مصالحات بينها وبين بعض دول المنطقة.
إنّ الحديث يتكرّر الآن عن إستراتيجيات دولية وإقليمية تجاه المنطقة، بينما الغائب الأكبر هو الإستراتيجية العربية المشتركة، والحاضر الأفعل هو الصراعات البينية بين العرب والتي تشمل بسلبياتها كلّ دول المنطقة، فالبديل ليس «محور مقاومة» ضدّ «محور سلام» أو العكس، كما ليس البديل الآن «اعتدالاً» ضدّ «ممانعة»، إنّه بكلِّ وضوح: أوطان موحّدة أو دويلات متصارعة لصالح المشروع الإسرائيلي أولاً وأخيراً.
وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، إنْ لجهة إخراج مصر من موقعها الريادي التاريخي في المنطقة ومن الصراع مع إسرائيل، أو لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت)، ومن معاهدات تسوية جزئية ناقصة مع إسرائيل لم تحقّق سلاماً ولا عدلاً ولا حرّية. فالعرب يدفعون الآن ثمن هذه الخطايا الكبيرة التي حدثت في المنطقة، ممّا جعلهم بلا مرجعية واحدة وبلا بوصلة مرشدة لحركتهم السياسية أو لمعاركهم العسكرية.
وتتحمّل السياسات الأميركية في المنطقة مسؤولية كبيرة فيما حدث ويحدث من فوضى وصراعات ومناخ مناسب لبروز تنظيمات إرهابية كـ«القاعدة» و«داعش». كذلك هي نتائج الاحتلال الأميركي للعراق من حيث التشجيع على الفرز المناطقي والمذهبي وتدمير مقوّمات الدولة العراقية، وما أدّت إليه هذه السياسات من مخاوف لدى كلّ دول الجوار.
لكن التعامل مع تزايد «النفوذ الإيراني» في بعض الدول العربية لا يجب أن يحجب المخاطر المتمثّلة بالاحتلال الإسرائيلي الجاثم على فلسطين وأراضٍ عربية، بل تستدعي هذه التحدّيات كلّها تصحيح التوازنات في المنطقة من خلال قيام تضامن عربي شامل وسليم يضع الأسس المتينة للعلاقات بين الدول العربية، وبينها وبين سائر دول الجوار الآسيوي والأفريقي.
هي مسؤولية عربية مشتركة الآن الاتفاق على تحديد من هم «الأعداء» و«الخصوم» و«الأصدقاء»، واعتماد المصلحة العربية المشتركة معياراً للتصنيف لا المصالح الفئوية. فقد ثبت حتّى الآن من تجارب السنوات الماضية، أنّ المصلحة الفئوية تتحقّق آنياً ولفترة محدودة، ثم ترتدّ إلى الوراء بحكم تداخل قضايا المنطقة وتداعياتها المتلاحقة وتأثيراتها الشاملة. وهذا الدرس انطبق على التسويات السياسية الانفرادية وعلى الحروب العسكرية الفئوية. وحينما يحصل موقف عربي موحّد ينطلق من رؤية عربية مشتركة، فإنّ «النفوذ الإقليمي» لأي جهة سيتقلّص لصالح دعم هذا الموقف العربي لا في أن يكون بديلاً عنه كما واقع الحال اليوم.
البلدان العربية بحاجة أيضاً لتدعيم الوحدة الوطنية الشعبية في كلٍّ منها، فبذلك يمكن مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية وما هو قائم من «هلال احتلال» إسرائيلي وداعشي يمتدّ من القدس إلى الموصل، مروراً بأراضٍ سورية ولبنانية محتلّة! فهذه هي القوى التي لها مصلحة كبيرة في المقولتين «الطائفية» و«الشرق أوسطية»، وهي تعمل على إسقاط «الهويّة العربية» التي تفرض التضامن بين العرب، وطنياً وقومياً، وتصون وحدة الدول والأمّة.
إنّ ضعف المناعة في الجسد العربي هو الذي جعله قابلاً لاستقبال حالات الأوبئة التي تعشّش الآن في خلاياه، وأخطرها وباء الانقسام الطائفي والمذهبي. ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها!
وستبقى التطورات مرهونة بمقدار استقلالية القرار العربي، وبكيفيّة رؤية حقيقة الصراعات في المنطقة.
Leave a Reply