تردّد في السنوات الماضية تعبير «البيت الخليجي» إضافةً إلى تسميات «المواطن الخليجي» و«دول الخليج»، وكلّها نشأت بعد إعلان تأسيس «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» في العام 1981. وارتبطت ولادة «مجلس التعاون» بوجود تحدّيات أمنية على الدول المشاركة فيه نتيجة خروج الحماية البريطانية من المنطقة في عقد السبعينات، بعدما كانت عدّة إمارات عربية تحت الهيمنة الإنكليزية وبتوصيفٍ استمرّ لعقودٍ طويلة باسم «المحميات البريطانية».
ورافق ذلك أيضاً حدوث «الثورة الإيرانية» في العام 1979 وما حملته من متغيّرات وتحدّيات على مجمل أنظمة المنطقة، ثمّ إشعال النظام العراقي السابق لحربٍ دامية طويلة مع إيران، وظّفتها الولايات المتحدة الأميركية لإضعاف إيران والعراق معاً (تحت سياسة «الاحتواء المزدوج»)، ولاستنزاف المال العربي الخليجي في الحرب العراقية-الإيرانية التي تزامنت أيضاً مع استنزاف المال العربي ذاته في حرب «المجاهدين الأفغان» ضدّ روسيا الشيوعية، وفي شراء كمّيات ضخمة من الأسلحة الأميركية والأوروبية.
وبينما ذلك كلّه كان يحدث في منطقة الخليج العربي خلال عقد الثمانينات، كانت بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) تشهد أيضاً حروباً دامية بدأت في الحرب الأهلية اللبنانية التي انغمست فيها سوريا وكل المنظمات الفلسطينية وأطراف عربية أخرى، وصولاً إلى احتلال إسرائيل في العام 1982 لأوّل عاصمة عربية (بيروت) ولنصف الأراضي اللبنانية، ثمّ إلى ولادة حركة المقاومة المسلّحة في لبنان ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
أكان ممكناً حدوث هذه التداعيات العسكرية والسياسية الخطيرة في «بلاد الخليج العربي» و«بلاد الشام» خلال عقد الثمانينات لو لم يحدث الانهيار الكبير في «البيت العربي» نتيجة غياب جمال عبد الناصر، وكمحصّلة لتغييب دور مصر بعد المعاهدات مع إسرائيل في «كامب ديفيد»؟! نعم، هناك بدأ تصدّع أساس «البيت العربي» وانهيار «غرفه» المشرقية والمغربية واحدةً بعد الأخرى.
لقد قامت أشكال مختلفة من مجالس التعاون الإقليمي في المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية لكنّها إمّا انتهت إلى الفشل كما حصل في تجربتيْ مجلس التعاون العربي (العراق، مصر، اليمن والأردن) واتحاد المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس وليبيا)، أو هي تتعثّر الآن كتجربة «مجلس التعاون الخليجي». ويكثر الآن الحديث عن الصراعات والخلافات الجارية بين الدول الأعضاء الست في هذا المجلس وحول مستقبل صيغ التعاون والاتحاد بينها. فالأمر لا يتعلق فقط بالموقف من إيران بل هو على قضايا عديدة؛ منها مواقف بعض هذه الدول من مصر، ومن أحداث سوريا، ومن «حركة الإخوان المسلمين»، ومن العلاقات الراهنة مع الولايات المتحدة، إضافةً إلى الخلافات حول أمور التعاون الاقتصادي.
وكم كانت غامضة أسباب الدعوة التي خرجت في العام 2011 من «مجلس التعاون الخليجي» لضمّ الأردن والمملكة المغربية لعضويته، لأن هذه الدعوة تُخرج المجلس من حيّزه الجغرافي الخليجي وتجعله مجلساً للحكومات العربية الملكية والإماراتية.
لا شكّ أنّ الدول الأعضاء في «مجلس التعاون الخليجي» هي محط أنظار قوى إقليمية ودولية عديدة. فهذه الدول تملك حوالي 40 بالمئة من نفط العالم، وهي تجني ثروة مالية من ريع النفط تُقدّر الآن بـ700 مليار دولار سنوياً، رغم أنّ عدد سكانها هو بحدود 45 مليون نسمة نصفهم من الأجانب، أي أنّ 20 مليون تقريباً هم مجموع المواطنين الأصليين لهذه الدول الست. وهذه الأرقام تجعل من بلدان الخليج العربي هدفاً وغنيمة كبرى منشودة للطامعين بثروات مالية وبمصادر الطاقة الهامّة للعالم كلّه. لكن استمرار استنزاف هذا المال العربي الخليجي يحتاج إلى أزمات وحروب في كل المنطقة العربية، وهو ما نراه يحدث في العقود الثلاثة الماضية، دون انتباه إلى أنّ الأمن القومي العربي كان وسيبقى واحداً، وبأنّ الخلل فيه بمكان سيؤثّر على المكان الآخر، وبأنّ بيضة الميزان في هذا الأمن القومي هي مصر، وبأن الحرص على أمن «بلاد الخليج» أو «بلاد الشام» أو «بلاد المغرب العربي» يرتبط عضوياً بأمن «بلاد وادي النيل» وبالقاهرة تحديداً، والعكس صحيحٌ أيضاً.
واقع الحال الآن، أنّ الصراعات والخلافات هي ليست بين دول «مجلس التعاون الخليجي» فقط، بل هي صراعات وخلافات وحروب داخلية على امتداد الأرض العربية، وبأن مصر مشغولة الآن بأوضاعها الداخلية بينما محيطها الجغرافي، غرباً في ليبيا وجنوباً في السودان وشرقاً في فلسطين وسوريا، منهمك في فوضى داخلية وفي مخاطر التشقق والانقسام.
واقع الحال العربي الراهن يستدعي وقفةً عربية شاملة مع الذات، ومراجعة عميقة لمجمل المرحلة الماضية، وإدراكاً واعياً بأنّ الكل في هذه المنطقة على سفينة واحدة، وبأنّ التجارب الاتحادية العربية الفاشلة في الماضي لا يجب أن تعني تخلّياً عن مطلب الاتحاد والتكامل العربي الشامل. فبديل ذلك هو التمزّق والانشطار الداخلي، ولن تنفع «الحمايات الأجنبية» في الحفاظ على أي بلد أو شعب أو حكم.
ربما ستنتقل منطقة «الشرق الأوسط» –بما فيها من عربٍ وفرس وأتراك وإسرائيليين- من مرحلة الحروب الإقليمية ثم الحروب الأهلية، إلى مرحلة فرض «نظام شرق أوسطي جديد» تتحقق فيه تسويات لأزمات، وتوزيع لحصص إقليمية ودولية، لكن يكون العرب فيه مسيّرين لا مخيّرين في تقرير مستقبلهم وكيفّية توزيع ثرواتهم. فما زال «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي رافق حقبة التسويات في التسعينات حيّاً ومنشوداً، وما زال كتاب شيمون بيريز عنه متوفّراً في أسواق صنع القرارات الدولية. لقد تحدث بيريز عن أهمية وجود تطبيع عربي-إسرائيلي ينتج شرقاً أوسطياً جديداً يقوم على (التكنولوجيا الإسرائيلية والمال الخليجي والعمالة المصرية)!، فهل ذلك فعلاً ما يبتغيه الإنسان العربي من الخليج إلى المحيط من مستقبل حيث يكون العربي وماله كالعبيد في خدمة السيد الإسرائيلي؟!.
كم هي مصادفة محزنة أن تكون بداية التجربة الاتحادية الأوروبية قد تزامنت مع فترة تأسيس الجامعة العربية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، فإذا بدولٍ لا تجمعها ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، دول شهدت فيما بينها في قرونٍ مختلفة حروباً دموية طاحنة آخرها الحرب العالمية الثانية، تتّجه إلى أعلى مستويات الاتحاد والتعاون، بينما بدا التعاون بين الدول العربية أشبه بمؤشّرات سوق العملة، يرتفع أحياناً ليصل إلى درجة الوحدة الاندماجية بين بعض الأقطار، ثمّ يهبط معظم الأحيان ليصل إلى حدّ الانقسام بين الشعوب والصراعات المسلّحة على الحدود، وإلى الطلاق الشامل بين من جمعتهم في مرحلة ماضية صيغٌ وحدوية..
تجربة الاتحاد الأوروبي قامت على المصالح المشتركة وعلى التعاون الاقتصادي أولاً كمدخل للاتحاد الدستوري الشامل. لكن هذه التجربة قامت وما تزال على جملة عناصر وشروط كان أهمّها رفض التدخّل في شؤون البلد الآخر، واحترام إرادة الشعوب داخل هذه البلدان، وبالانسجام بين أنظمة الحكم من حيث البناء السياسي الديمقراطي.
أمّا تجربة جامعة الدول العربية ثم تجارب الاتحادات الإقليمة العربية الأخرى فكانت تسير بحالٍ معاكس تماماً، فهذه التجارب العربية لم تعتمد في مسيرتها سوى على توافق المواقف السياسية الآنية، أو على تحدّيات طارئة على هذا البلد أو ذاك، سرعان ما تعود العلاقات السلبية بعدها إلى سابق عهدها، إضافةً إلى افتقاد المشاركة الشعبية السليمة في صناعة القرار الوطني، حيث ما زالت المجتمعات العربية تعيش الحالة القبلية والطائفية منذ قرون عديدة.
لقد مارست الحكومات العربيّة، بعد نشأة جامعة الدّول العربيّة، مفهوم «الخيمة» في العلاقات بين الدول العربيّة وليس مفهوم «العمارة» الذي مارسته والتزمت به دول المجموعة الأوروبيّة. ففي «خيمة» العلاقات الرسميّة العربيّة إمّا الاتفاق على كل شيء أو التّصارع في «الخيمة» وهدمها على من فيها!
في تجربة «السّوق الأوروبيّة المشتركة»، الّتي تزامنت نشأتها مع تأسيس «جامعة الدول العربيّة»، جرى تطبيق مفهوم «العمارة» التي تحتاج أوّلاً إلى أساسٍ متين سليمٍ وصلب، ثمّ في كلّ حقبة زمنيّة، وبعد توفّر ظروف وإمكانات مناسبة، يتمّ بناء الطّابق تلو الطّابق في «عمارة» وصلت الآن إلى صيغة «الاتحاد الأوروبي» بينما يتراجع دور الجامعة العربيّة ويبقى أسير مفهوم «خيمة الحكومات»!
لكن من المهم أن نتذكّر دائماً أنّ الأوروبي «المستعمر» الذي ورث الهيمنة العثمانية على العرب باسم الانتداب، هو الذي قام بتجزئة المنطقة العربية إلى دولٍ متنازعة على الحدود.. ولا ننسى أيضاً أنّ الأوروبي «الديمقراطي» قد حكم معظم البلاد العربية بأسلوب الحكم المباشر وبصلاحيات مطلقة وبتغطية دولية (باسم الانتداب أو الحماية)، فلِمَ لم يُقِم هذا «الديمقراطي» الأوروبي مؤسسات سياسية ديمقراطية في البلاد التي حكمها، ولِمَ حافظ (بل وشجّع) على الصراعات الداخلية في كلّ بلد وأبقى اقتصاديات هذه البلاد في أقصى حالات التخلّف حتى يسهل عليه سرقة ثرواتها؟!
إنّ تطوير العلاقات العربية-العربية باتجاهٍ أفضل ممّا هي عليه الآن صيغة الجامعة العربية هو الحلّ الأفضل لكل الدول العربية، بما فيها دول «مجلس التعاون الخليجي»، علماً أنّ تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي هو الآن المدخل الصحيح لبناء علاقات عربية أفضل، وهو الضمان كذلك لاستمراريّة أي صيغ تعاونٍ عربيٍّ مشترَك.
Leave a Reply