ثمة تصريحان مثيران للإعجاب في قدرتهما على اختزال طبيعة الصراع الدائر في الشرق الأوسط، ولاسيما في سوريا. الأول، لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، حين قال إن «أهدافنا تتطابق مع تركيا وإيران… ولكن ليس بالكامل»، والثاني، لوزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان الذي اعتبر أن الرئيس السوري بشار الأسد «ربح الحرب ولكنه لم يفز بالسلام».
ضمن إطار هذين الموقفين، يمكن فهم طبيعة ما يجري اليوم في إدلب، مع قرب إنجاز التحضيرات النهائية لآخر معارك الميدان السوري، بانتظار الساعة الصفر، التي ستحدّدها التفاهمات الجارية على خط موسكو–أنقرة–طهران من جهة، وعملية الرصد الدقيق لردود الأفعال المحتملة من قبل الغربيين، الذين استبقوا المعركة الحاسمة، بما بات يعرف بـ«مسرحية الكيميائي».
تحالف الضرورة
في التصريح الأول، حدّد لافروف، بدقّة شديدة، الشكل الأكثر وضوحاً للعلاقات بين كل من روسيا وإيران وانقرة. «التطابق في الأهداف» لم يعد خافياً على أحد، خصوصاً أن ما يجمع الدول الثلاث حالياً، هو «تحالف الضرورة» في مواجهة النزعة العدوانية غير الموارِبة التي تنتهجها الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب ضد هذه الدول.
ولا شك في أن روسيا، وبعدما بذلت كل ما في وسعها لاحتواء الضغوط الأميركية، باتت على قناعة راسخة بأنّ الوقت قد حان للتخلي عن اللهجة الدبلوماسية التي طالما اعتمدتها خلال السنوات الثمانية عشر الماضية من عهد الرئيس فلاديمير بوتين، والتي تلخصها كلمة «شركائنا» الأميركيين، والتعامل مع الوضع الدولي الجديد، باعتبار أن من يتخذ القرارات في البيت الأبيض، أو في المؤسسة الحاكمة في واشنطن، هم «أعداء»، وهو أمر بات لا يحتمل الجدل، في ظل التصعيد الأميركي الأخير الذي يستهدف بشكل مباشر خنق الاقتصاد الروسي، وبالتالي تقويض مفاعيل الانجازات التي حققت لسيّد الكرملين تلك الشعبية الهائلة، في الداخل كما في الخارج، والتي لم يحظَ بها أيّ رئيس روسي من قبل.
أمّا إيران، فقد صارت على يقين بأنّ حقبة باراك أوباما، قد طُويت نهائياً في الولايات المتحدة، وبالتالي فإنّ الجمهورية الإسلامية باتت ترى أن ما يجري اليوم، هو بمثابة العودة إلى المربّع صفر، السابق لتسوية فيينا النووية، وهو ما يعكسه الخطاب الرسمي، حتى لدى المعسكر «الإصلاحي» فيها، الذي بات يقارب المرحلة المقبلة بالطريقة ذاتها التي يقاربها المعسكر «الراديكالي» –وإن اختلفت المسمّيات– ما يعكس توافقاً داخلياً على ضرورة العودة إلى ما يسمّى بـ«الاقتصاد المقاوم»، واعتماد سياسة خارجية تأخذ في الحسبان كل المتغيّرات الجديدة، بكل ما تفرضه من إعادة تموضع في التحالفات، وبطبيعة الحال إعادة جدولة الخيارات التكتيكية التي باتت تتماهى اليوم مع الخيارات الاستراتيجية.
وأمّا تركيا، فقد باتت «أحدث» المتضررين من السياسات الأميركية، التي تقترب من أن تتخذ طابع المواجهة، وإن اقتصرت على ميدان الاقتصاد، بعد سلسلة الإجراءات العقابية التي اتخذها ترامب ضدها، والتي تهدد بانحدار الدولة التركية إلى حافة الإفلاس في ظل الانهيارات المتتالية في سعر عملتها الوطنية، وهو ما فرض على رجب طيب أردوغان إعادة التفكير مجدداً في الخيارات الاستراتيجية، بعد سلسلة الانتكاسات التي شهدتها السنوات الماضية في السياسة الخارجية، ولاسيما في شقها السوري، وبالتالي حسم التذبذب في التموضع بين الخيار الروسي والخيار الأميركي.
إلى إدلب درّ
بهذا المعنى، يأتي تصريح سيرغي لافروف ليرسم طبيعة المرحلة المقبلة، وبوابتها معركة إدلب التي تتقارب فيها مواقف الأطراف الثلاث –وهي نفسها الثلاثي الضامن لمسار أستانا– على ضرورة إنهاء الحالة الشاذة التي أفضت إلى سيطرة «جبهة النصرة» (الجناح السوري لتنظيم «القاعدة») على هذه المحافظة السورية، التي تكاد تكون المعقل الأخير للإرهاب التكفيري في سوريا، في ما عدا بعض البؤر الهامشية، وهو ما يعكسه الشق الأول من كلام الوزير الروسي أي «الأهداف المتطابقة»، لتبقى القمة المرتقبة بين فلاديمير بوتين وحسن روحاني ورجب طيب أردوغان، النقطة الفاصلة في حسم الشق الثاني، أي «… ولكن ليس بالكامل».
ولعلّ مجرّد انعقاد اللقاء بين القادة الثلاثة، بوتين وروحاني وأردوغان في طهران (مع صدور هذا العدد) يشي بأن إمكانية التوصل إلى توافقات بشأن إدلب، أمر ممكن، خصوصاً إذا ما اقترن بتعهدات روسية يحسن بوتين تسويقها، بأنّ التحرك الجاري على الساحة السورية لا بد، أن يضمن مصالح كافة الأطراف التي باتت، بحكم الأمر الواقع، شريكة أو ربما حليفة في وجه العدوانية الأميركية.
وفيما تستمر الطائرات الحربية الروسية والسورية باستهداف مواقع مسلّحي «جبهة النصرة» في ريف إدلب الجنوبي، وسط تصريحات روسية تؤكّد استمرار موسكو بـ«مكافحة الإرهاب»، وملاحقته في كل مكان في سوريا، فإنّ حالة الفرز السابقة لساعة الصفر في إدلب ستصبح أكثر وضوحاً، على نحو يسمح بتحديد سبل مواجهة الضغوط التي يمارسها الغربيون، ولاسيما الولايات المتحدة، من البوابة السورية، لكبح المعركة الحاسمة، وهو ما بدأ بالفعل مع إثارة قضية الملف الكيميائي المزعوم مجدداً في أروقة مجلس الأمن الدولي، وعلى منابر الخطابة المباشرة، كما في منابر العالم الافتراضي.
وبهذا المعنى يمكن فهم تصريح جان إيف لودريان حين قال إن «الأسد لم يفز بالسلام»، بكل ما يحمل ذلك من دلالات على رغبة الغربيين في الحد الأقصى من الضغوط السياسية الممكنة لوقف الاندفاعة الروسية، وبالتالي انقاذ المصالح الاستراتيجية الغربية، بعد الإقرار بالهزيمة، على النحو المباشر الذي تضمنه الشق الأول من كلام الوزير الفرنسي بأن «الأسد ربح الحرب».
إسرائيل والإقليم
في الإطار ذاته، تأتي الاستفزازات الإسرائيلية المتجددة على الساحة السورية، من خلال مواصلة الغارات، التي باتت بمثابة رسائل سياسية أميركية في الميدان من جهة، ووسيلة مستهلكة لإحراج روسيا مع شركائها، لاسيما أن الموجة الجديدة من الاعتداءات ترافقت مع تغريدة ترامب الأحدث بشأن إدلب، والتي اعتبر فيها أن أي هجوم واسع النطاق في هذه المحافظة السورية سيكون «خطأً إنسانياً جسيماً»، وتزامنت أيضاً مع محاولات جديدة لتكثيف الضغوط على روسيا من البوابة الأوكرانية، وهو ما تبدّى في عملية اغتيال رئيس جمهورية الدونيتسك ألكسندر زاخارتشينكو، وحشد كييف قواتها مجدداً على طول خط وقف إطلاق النار مع الشرق الموالي لروسيا.
في ظل هذا الفرز السياسي الكبير، الذي كشفت عنه معركة إدلب المرتقبة، وما يدور حولها، تبدو قمة طهران مفصلية من الناحية الاستراتيجية، فالخيارات باتت ضيقة، وبات على الكل التعامل مع الملف السوري بعيداً عن التذبذبات، ولاسيما تلك التي اتسمت بها السياسة التركية في الفترة الاخيرة.
وفي هذا السياق، لا يبدو أن رجب طيب أردوغان يملك الكثير من هوامش المناورة، خصوصاً بعدما أظهر الروس موقفاً حازماً تجاه معركة إدلب، وكذلك خصوصاً بعد تحريك قطعهم البحرية باتجاه شرق المتوسط، وأيضاً بعد إطلاقهم أكثر من رسائل طمأنة إلى الجانب الإيراني، كان آخرها عبارة قالها لافروف خلال برنامج «اللعبة الكبرى» على القناة الأولى الروسية، وتجنّب الإعلام الغربي والعربي على حد سواء نقلها وهي أن «روسيا متواجدة في سوريا، وكذلك إيران وما يسمى بالميليشيات الشيعية، بطلب رسمي من الحكومة السورية المعترف بها في الأمم المتحدة».
وعلى هذا الأساس، فإنّ بإمكان بوتين أن يكون مطمئناً إلى الموقف الإيراني من جهة، وأن يفرض ضغطاً سياسياً «ودّياً» لكسب الموقف التركي، أو على الأقل تحييده، وهو ما قد يحاول أردوغان تجاوزه، من خلال اقتراحات جزئية، تستهدف كسب الوقت، ولكنها لا تبدو ناجعة هذه المرّة في ظل اصرار الروس على الطابع العاجل لضرورة الحسم في إدلب.
من هنا، يبدو الموقف الشرق أوسطي في واحدة من أشد مراحل التعقيد، وكذلك الغموض الذي لا يخفي حقيقة واحدة، وهي أن فتح الجبهة الإدلبية، وما سيتحقق في الميدان، لا بد من أن يترجم تلقائياً على المستوى السياسي الذي يتجاوز الملف السوري، باتجاه ملفات مترابطة بشكل واسع، من اليمن، حيث ما زال الحل السياسي معلّقاً على موازين القوى المرتقبة في الشام، وكذلك في ليبيا، حيث عكس التسخين المفاجئ والمختصر في آن واحد، أن ثمة شعوراً غربياً باحتمال خروج الوضع هناك عن السيطرة، في ظل انطباع سائد لدى الجميع بأن روسيا باتت تملك في هذا البد ما يكفي من مقوّمات لاستعادة زمام المبادرة التي فقدتها بعد «خديعة» العام 2012.
Leave a Reply