نبيل هيثم – «صدى الوطن»
تبدو سوريا والعراق أشبه برقعة شطرنج في الصراع الدولي الجديد على مسرح السياسة الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا.
على رقعة الشطرنج تلك، تحرّك روسيا بيادقها في حلب، فتسارع الولايات المتحدة إلى تحريك بيادقها في الموصل، وكل ذلك بإيقاع متغيّر، وحسابات دقيقة، تعيد الى الأذهان المنازلات المعقّدة بين بوبي فيشر وغاري كاسباروف.
السيطرة على حلب باتت بالنسبة إلى روسيا خياراً استراتيجياً، وكذلك الحال بالنسبة الى الموصل، التي باتت بدورها خياراً استراتيجياً للولايات المتحدة.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم أسباب التزامن بين المعركتين، من جهة، والإيقاع المتغيّر الذي تتسم به العمليات العسكرية الروسية والأميركية في المدينتين السورية والعراقية.
قبل أسبوعين، كان الانطباع العام في كل من سوريا والعراق، أن ثمة انهيارات كبيرة في صفوف «داعش» في الموصل من جهة، وفي صفوف مسلحي «جبهة النصرة» في أحياء حلب الشرقية من ناحية أخرى.
هكذا، فقد تحدّث الكل عن أن تحرير الموصل بات قاب قوسين أو أدنى من أن يتحقق. وبالتزامن كان التقدّم واضحاً في حلب، حيث وفّرت روسيا الغطاء العسكري اللازم لاقتحام الجيش السوري وحلفائه للاحياء الشرقية في حلب، بعد هدنة انسانية كان الهدف منها إخراج المدنيين من تلك الأحياء من جهة، وانسحاب المجموعات المسلحة من جهة ثانية.
كان يمكن للمعادلة الأميركية-الروسية أن تتم بين لحظة وأخرى، بحيث تستطيع الولايات المتحدة تسجيل نقطة في الصراع القائم من البوابة العراقية، وتتمكن روسيا بدورها من تسجيل نقطة موازية من البوابة السورية.
الرقة والنقلة الروسية
غير أن ثمة في الولايات المتحدة من يجنح إلى أكثر من ذلك. المقصود بذلك، بطبيعة الحال، صقور إدارة باراك أوباما، ولا سيما وزير الدفاع آشتون كارتر، الذي سبق أن أحبط، قبل أسابيع توافقاً أميركياً–روسياً حول سوريا، وقد جاءت زيارته الأخيرة للعراق، بعد انطلاق العمليات العسكرية في الموصل، لتضرب الترتيبات غير المباشرة بين واشنطن وروسيا، والتي فرضتها الوقائع الميدانية أكثر من كونها تفاهمات بين الطرفين.
في زيارته المفاجئة لبغداد، أراد آشتون كارتر تغيير تكتيك «بيدق في مقابل بيدق» في لعبة الشطرنج تلك، والقفز بحصانه الأسود إلى ما بعد الموصل وحلب، بأن تحدّث صراحة عن بدء الاستعدادات لفتح معركة الرقة.
يدرك كارتر جيداً أن معركة الرقة ليست قراراً بيد الولايات المتحدة وحدها، وأن الانفراد في فتح تلك الجبهة سيؤدي عملياً إلى إشعال مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، من شأنها أن تدفع نحو حرب عالمية ثالثة.
ويدرك الوزير الأميركي كذلك، أن معركة الرقة دونها ألغام تحول دون امكانية البدء بإطلاقها، حتى وإن قررت الولايات المتحدة ذلك بشكل أحادي، فإذا كانت المعركة في العاصمة الأولى للخلافة، أي الموصل، قد تطلبت جهداً استمر اشهراً طويلة للوصول الى تفاهمات بين القوى المتصارعة (محلياً واقليمياً) في العراق، فإن معركة العاصمة الثانية للخلافة لا بد أن تتم من خلال توافق روسي-أميركي، لأسباب عدّة، أولها أن حجم التناقضات بين القوى المرشحة للانخراط فيها أكبر كثير منه في الحالة العراقية، وثانيها أن اجتياز الحدود العراقية – السورية من قبل القوات الاميركية أو اجتياز الضفة الغربية للفرات من قبل تركيا سيكون اختراقاً لخط أحمر دولي رسمته روسيا.
على هذا الأساس، فإن ما قاله آشتون كارتر لا يعدو كونه محاولة للتشويش على معركة حلب، بعدما أظهرت معطيات الميدان الموصلي أن المعركة ضد «داعش» ستتطلب بضعة أسابيع أو ربما أشهر، وهذا ما رصده الروس بشكل واضح منذ بداية المعركة قبل اسبوعين، وها هي قيادة الأركان الروسية تؤكد اليوم ان المعطيات الميدانية تظهر تغييراً في التحركات الاميركية، التي شهدتها الايام الماضية، لجهة استبعاد واشنطن خيار فتح معركة الرقة، لتعود الأمور إلى المربع السابق على رقعة الشطرنج، وفق معادلة «حلب مقابل الموصل».
ولا شك في أن الرئيس الروسي يتحيّن الفرصة لتنفيذ نقلته في الميدان السوري، ولذلك لا تستبعد الدوائر العسكرية والاستخباراتية في الولايات المتحدة وبريطانيا أن يعمد الروس إلى شن عملية واسعة في الأحياء الشرقية لمدينة حلب يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، في ظل انشغال ادارة باراك أوباما في السباق المحموم إلى البيت الأبيض بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، حتى أن مصادر غربية أكدت خلال الايام الماضية أن أمراً كهذا مدرجٌ على جدول أعمال فلاديمير بوتين يوم «الثلاثاء الكبير». ومن المؤكد أن بوتين يبدو في حاجة إلى تحقيق نقلة قوية في حجارة الشطرنج الشرق أوسطية ليضع الرئيس الجديد أو الرئيسة الجديدة للولايات المتحدة أمام أمر واقع جديد، خصوصاً أن ثمة قناعة راسخة بأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد الثامن من تشرين الثاني الحالي، ستكون مغايرة لتلك التي طبعت عهد باراك أوباما، سواء تسلّم دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون مفاتيح البيت الأبيض.
بين كلينتون وترامب
وبالرغم من أن كلينتون تحاول الحفاظ على الخط الذي اتبعه أوباما من خلال تقليل التدخل المباشر في قضايا وصراعات الإقليم، وتفضيل الاعتماد على حلفاء الولايات المتحدة، إلا أن ثمة تكتيكات في سياساتها ربما تثير قلق روسيا على الجبهة السورية، فهي تتبنى رؤية مفادها ضرورة توحيد قوى المعارضة المعتدلة ضد النظام السوري، وإنشاء مناطق آمنة للاجئين في سوريا.
أما ترامب، فإذا كان يتفق مع كلينتون في إقامة مناطق آمنة بسوريا، فهو يرفض فكرة تسليح المعارضة السورية، على اعتبار أن الولايات المتحدة ليست على دراية بماهية المتمردين الذين يمكن أن تساعدهم ضد بشار الأسد.
وفي ما يتعلق بالحرب ضد «داعش»، فإن كلينتون ترفض إرسال قوات عسكرية أميركية كبيرة لمحاربة التنظيم التكفيري في سوريا والعراق، وتفضل الاعتماد على الحلفاء من الدول العربية السنية والأكراد، للقيام بعمليات عسكرية ضد على الأرض، ما يعني من الناحية العملية أن الولايات المتحدة في ظل عهد كلينتون ستواصل العمل على إطالة الصراع القائم حالياً، وبالتالي استثمار الورقة الداعشية حتى استنفاد مهمتها. وأما ترامب فيؤيد التنسيق مع روسيا لمحاربة «داعش» واستمرار الغارات الجوية ضد التنظيم الإرهابي، مُهدداً بأنه سوف يقوم بقصف آبار البترول في العراق، لحرمان «داعش» من أهم مصادر تمويله، ومهاجمة كل المنصات الإلكترونية التي يستخدمها التنظيم في الدعاية وتجنيد المقاتلين.
ومن المؤكد أن الاحتمالات التي تضعها القيادة الروسية لمرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية تتجاوز الميدانين السوري والعراقي، خصوصاً أن ثمة قضايا شرق أوسطية أخرى قد تتأثر بوصول ترامب أو كلينتون إلى البيت الأبيض.
أبرز تلك القضايا، مصير الاتفاق النووي مع ايران، فكلينتون لا تزال من أشد المؤيدين للتسوية النهائية، في حين يبدي ترامب رفضه للاتفاق النووي، باعتباره يشكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة وأمن إسرائيل، لا بل أن المرشح الجمهوري تعهد بأنه في حال انتخابه سوف يقوم بإعادة التفاوض بشأن هذا الاتفاق.
ولا شك في أن هذ الامر يثير قلق الروس، الذين باتوا مرتبطين بتحالف استراتيجي مع الجمهورية الاسلامية، إن على المستوى الاقتصادي، من خلال عشرات الاتفاقيات المتعددة الأوجه، أو على المستوى العسكري، الذي اثمر قراراً تاريخياً من إيران بفتح قاعدة همدان الجوية للقاذفات الاستراتيجية الروسية.
وارتباطاً بالملف النووي الإيراني، تسعى هيلاري كلينتون إلى طمأنة الحلفاء في منطقة الخليج العربي، بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عنهم، وأنها سوف تظل ملتزمة بأمن دول مجلس التعاون الخليجي وحمايتها من التهديدات الإيرانية، في حين يقول ترامب أنه سيوقف استيراد النفط من المملكة العربية السعودية، ما لم تشارك الأخيرة بجيشها في قتال تنظيم «داعش» أو تعوض الولايات المتحدة عن الجهود التي تبذلها في محاربة التنظيم المتشدد. كما يطالب المرشح الجمهوري دول الخليج بأن تتحمل تكلفة إقامة مناطق آمنة في سوريا.
على هذا الاساس، فإن روسيا تبدو في حاجة اليوم إلى فرض قواعد لعبة جديدة في الشرق الأوسط، تحسباً للطموحات الأميركية المحتملة، بعد تغيير الادارة الاميركية، ومما لا شك فيه أن قواعد اللعبة تلك تتطلب احداث فارق نوعي في المعادلات السياسية والعسكرية، ومن الواضح أن ذلك لن يتم إلا من خلال حسم معركة حلب، التي ستحدد ملامح المشهد الجديد في الصراع الدولي القائم حالياً بين روسيا والولايات المتحدة، خصوصاً أن ثمة إجماعاً لدى المراقبين بأن مفاعيل تلك المعركة تتجاوز الميدان الحلبي، لتصل إلى كافة الملفات في المنطقة العربية، بما في ذلك طبيعة التحالفات والتموضعات في المرحلة المقبلة.
معركة حلب
أفشل الجيش السوري والقوات الحليفة كلّ محاولات الجماعات المسلحة في إحداث خرق باتجاه أحياء حلب الغربية، وكان آخرها غزوة «أبو عمر سراقب» لكسر الطوق عن الأحياء الشرقية المحاصرة حيث دعا الجيش السوري المسلحين إلى ترك السلاح ومغادرة المدينة قبل فوات الأوان وهو ما رفضته المعارضة المسلحة، بحسب ما ذكرت وكالة رويترز نقلاً عن قيادي في إحدى المجموعات المسلحة في شرقي حلب.
من جهة أخرى، أكدت وزارة الدفاع الأميركية أن خطة تطويق الرقة المعقل الرئيسي لتنظيم «داعش» في سوريا ستتمّ قريباً بالقوات المتاحة.
وكانت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة في سوريا أعلنت منح مهلة إنسانية في حلب يوم الجمعة (مع صدور هذا العدد).
وبحسب بيان نقلته وكالة «سانا» فإنّ هذه المهلة ستشمل فتح جميع المعابر الإنسانية الستة المُعلنة سابقاً لخروج المسلحين ومن يرغب من المدنيين والجرحى والمرضى.
معركة الموصل
بدأت القوات العراقية بدخول الموصل من محور جنوب شرقي المدينة وشرقها، فيما تمكنت قوات الحشد الشعبي من قطع الطريق الرابط بين الموصل وتلعفر، بالتزامن مع تشديد مجلس الأمن على منع انتقال عناصر «داعش» من الموصل إلى الرقة، داعياً إلى تقديم كل الدعم للحكومة العراقية للانتصار على التنظيم.
ونقلاً عن مصادر عسكرية عراقية بدأ اقتحام حي الكرامة شرق مدينة الموصل، كما اقتربت القوات العراقية من إحكام الطوق على عناصر «داعش» في حمام العليل جنوب الموصل. أما قوات الحشد الشعبي فتمكنت من قطع الطريق الرابط بين الموصل وتلعفر، وتواصل العمليات لتطهير كافة القرى الكائنة غرب الموصل لقطع خطوط الامداد عبر الحدود السورية.
ونجحت القوات العراقية والبشمركة الكردية وقوات الحشد الشعبي في تحرير عشرات القرى من سيطرة التنظيم على مدى الأسبوعين الماضيين.
وأكد الناطق باسم كتائب «حزب الله» العراقي جعفر الحسيني السيطرة على الطريق الدوليّ الذي يربط بين نينوى والرقة، مؤكداً أنّ العمليات ستستمرّ لتوسيع الجبهة لتصل إلى ٣٥ كيلومتراً تمهيداً للوصول خلال أيام إلى تلعفر.
Leave a Reply