عود على بدء: المخاض الثوري
منذ سقوط نظام حسني مبارك واضطراب الوضع بسبب ضغط الشارع المصري المنتفض ومحاولة الإلتفاف التي مارسها المجلس العسكري، وما تلى ذلك من مخاض عسير تمّ على أثره تعيين هيئة تأسيسية لكتابة الدستور، ثم تنظيم الانتخابات التشريعية بغرفتيها مجلس النواب ومجلس الشورى، والتي انتهت بفوز التيار الإسلامي عبر أهم اجنحته تيار «الإخوان» الممثل بذراعه السياسي حزب «الحرية والعدالة» والتيار السلفي ممثلاً بـ«حزب النور»، ثم بداية مسلسل التراجعات الذي قاده العسكر أولا عبر محاولة احتكار الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وثانياً عبر حل البرلمان والتلويح بحل مجلس الشورى والهيئة التأسيسية.. الى حدود تلك الفترة، كان نصر الشارع يبدو حتميا لأنّ كل القوى الناهضة من أجل التغيير في البلاد كانت موحدة حول الاهداف المرحلية وهي أولا اسقاط النظام وثانياً حماية الثورة من إلتفاف الفلول الممثلة في المجلس العسكري وبقايا النظام المتمثلة في القوى المتنفذة داخل الحزب الحاكم السابق الحزب الوطني والتي كانت تتحرك عبر بث الشك والفوضى عبر البلطجية المأجورين.
فوز مرسي وتَغَيّر قواعد اللعبة: المُنعرج
استطاع الشارع المصري عبر الضغط المتواصل والمرابطة في الميادين والشوارع وبذل ضريبة التضحية بالدم وبموازاة ضغوط دولية مترافقة من إجبار بقايا النظام الممثلة في المجلس العسكري الحاكم أن تقبل بإجراء انتخابات رئاسية. ولكن على ما يبدو لم يكن قبول العسكر بإجراء الإنتخابات إذعاناً صريحاً لتحقيق التحول الديمقراطي بمصر بل كان هدفهم غير المعلن الاستمرار في الحكم:
– أولا عبر ربح الوقت من أجل أن يتآكل صمود الشعب ثم تعود الأمور سيرتها الاولى، لكن الشارع ظل صامداً ولم يتزحزح عن تنفيذ اهداف الثورة بالإنتقال الى نظام ديمقراطي مدني.
– ثانيا عبر إجراء تبديلات شكلية في الأجهزة والشخصيات والصلاحيات لا تُغير معادلة الحكم التي عمل المجلس العسكري على تثبيتها طيلة أشهر.. وظل الرئيس مرسي يتحين الفرص ليسترجع صلاحياته لأنّ المجلس العسكري كان يريده رئيساً بلا أنياب.
– ثالثا عبر استمرار النظام السابق الذي لم يفقد إلاّ رأسه ومحاولة فلوله العودة من الشباك بعد أن غادروا الحكم من الباب. وهي ورقة كادت أن تنجح حيث أمكن لرئيس وزراء حسني مبارك، احمد شفيق، من أن يفوز بأصوات حوالي نصف الناخبين، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح رئيساً للبلاد.
بعد اجراء الإنتخابت وفي انتظار إعلان النتائج التي طالت أكثر من اللزوم لعب العسكر بأعصاب الجميع عبر الإستمرار في تأخير إعلان النتائج حتى كثرت التأويلات من حديث على امتحان العسكر لجدية الشارع واهتمامه بالانتخابات الرئاسية في أول تجربة انتخابية رئاسية حرة الى حديث عن إمكانية إلغاء الإنتخابات الى روايات عن مفاوضات أطراف دولية وإقليمية مع مرشحَي الرئاسة وروايات أخرى عن صفقات بين العسكر و«الإخوان». لقد بقي الشارع المصري يعيش على التسريبات والتأويلات الى أن أعلِِن في النهاية عن فوز محمد مرسي.
وقد أظهر الشارع وقوفه مع الرئيس الجديد وسانده في معركته لإسترجاع صلاحياته كرئيس فعلي للبلاد، وعندما اِنقض مرسي في أول فرصة سنحت على المجلس العسكري فأحال بعض أعضائه على التقاعد وجمد البعض الآخر، لم يواجه معارضة من الشارع الذي كان يريد أن يبدأ التأسيس الفعلي للدولة المدنية عبر ممارسة مرسي المنتخب لصلاحياته واسترجاعها من العسكر، وكنا أشرنا في مقال سابق لنا الى الدور الذي يمكن أن يلعبه مرسي في المرحلة القادمة وتساءلنا هل يكون مرسي «عزيز مصر الخادم لها ولشعبها ام يكون خادما لجماعة الإخوان»؟
ولم يكن ماجاء في مقالنا السابق مجرد نبوءات حول مستقبل مصر بل قدمنا بعض المؤشرات التي كانت تدل على أنّ مرسي كان ميّالاً لخدمة أجندة الجماعة وتقديمها على دوره كرئيس لخدمة المصريين بكافة مشاربهم ومبادئهم ومذاهبهم ودياناتهم. فما حصل مؤخراً من قرارات صادرة في الإعلان الدستوري الأخير للرئيس مرسي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ الرئيس مرسي ومن ورائه «الجماعة» لم يطيقوا صبراً عن إظهار ماكان خافياً وباطناً في اجندتهم الحقيقية فكيف يبدو ذلك؟
الإعلان الدستوري: العصمة
انتفض الشارع المصري من جديد ونزل الى الساحات والشوارع بعد أن صدم مرسي أغلب المصريين بإصدار اعلان دستوري جديد من سبع نقاط أقل ما يقال فيه إنه إعلان واضح من مرسي بأنه دكتاتور مصر الجديد، ورغم ما ورد من بعض الفصول في الإعلان الدستوري تدعو الى محاكمة القتلة وإقالة المدعي العام الذي عينه مبارك وهي قرارات قد لا يخالفه فيها الكثير، فإن باقي القرارات تجعل من مرسي رئيساً معصوماً لا ترد له قرارات ولا تناقش، فهي قرارات محصّنة ونهائية ونافذة ولا يمكن ردها أو وقف تنفيذها من أية جهة كانت، وبذلك يكون مرسي قد اختزل في شخصه كل المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية فلا رادٌ لما يقضي به، في خرق واضح لمبدأ فصل السلطات الذي يعتبر عماد النظام الديمقراطي.
وقد تسبب الإعلان الدستوري بانقسام حاد في الشارع المصري بين المعارضة و«الإخوان» قد يتطور ليصبح صدعاً لا يمكن رأبه، ومن كل ما تقدم يمكن ان نستخلص الإستنتاجات التالية:
– لم تتعظ «الجماعة» من تجارب سابقة لأحزاب إسلامية حكمت في السودان وباكستان وغيرها، حيث سارعت تلك التيارات الى القفز فوق الواقع دون الاهتمام الكافي بطبيعة مكونات المجتمعات التي تحكمها ولا الى المتغيرات التي تشهدها المنطقة، مُسرّعة الخطى نحو التركيز على قضايا العقائد والنقاط الخلاقية ومهملة مشاكل الناس الاجتماعية والاقتصادية ومتناسية الحقوق السياسية لكل مكونات المجتمع ضمن حدود دولة من المفترض أنها مدنية تقوم على مبدأ المواطنة وتُرعى فيها حقوق الجميع.
– لم تقم «الجماعة» بتحليل الواقع الحالي المصري والعربي جيداً لذلك لم تُحسن التوقيت الذي اخذت فيها قرارت الاعلان الدستوري لذلك كانت ردة فعل الشارع والمعارضة قوية وصلبة وغير مهادنة ورافضة لأيّ تفاوض حتى يُلغى الإعلان.
– لم تقرأ «الجماعة» جيداً الرسالة التي وجهها جزء كبير من الشعب اليها من خلال نتائج الانتخابات الرئاسية حيث انتخب جزء من الشعب أحمد شفيق رغم أنه من الفلول، وذلك إشارة الى حالة الريبة التي كانت تطغى على جزء كبير من الشعب توجساً من «الإخوان» ومرد حالة الريبة هو المواقف والأفكار التي عبرت عنها «الجماعة» قبل وبعد الثورة.
– تغافلت «الجماعة» عن الظروف التي أوصلتها الى السلطة ولم تفهم أنها شريك في البناء وفي ثمار الثورة التي لم ينجزها حزب بعينه بل كانت «ثورة شباب مصر» فمن أين لتنظيم «الإخوان» أن يقود ثورة لم يشعلها أو يتزعمها بل تردد في الإلتحاق بها في أيامها الأولى؟
– قسّمت «الجماعة» الشارع المصري الذي كان موحداً حول حماية واستكمال الثورة الى شطرين، شطر مع «الإخوان» وشطر ضدهم، في مرحلة لا تزال فيها الثورة غضة وطرية وليست حمل المشاريع التقسيمية.
دولة المواطنة أم دولة الإيديولوجيا: الشرخ
فاجأ الرئيس مرسي الشارع المصري والعربي العام بما جاء في نص إعلانه الدستوري الجديد لكننا لا نعتقد أن ما جاء فيه فاجأ الخاصة من الذين يدركون أن ما أعلنه مرسي كان سيحصل عاجلاً أم آجلاً. وإذا قمنا بتفكيك مشهد ما حصل ثم أعدنا تركيبه وفق حقيقته سندرك أن الرئيس مرسي لا يمكن له أن يصدر مثل هكذا قرارات تقلب كل معادلات السياسة وترسم مستقبلاً لا يرجوه الشارع المصري لو لم يكن بموافقة ودعم «الإخوان» بما يتعارض وأهداف الشعب المصري الذي ظل على مدى سنوات مضت يبحث عن نوافذ أوكسجين يجدد من خلالها هواء مصر السياسي الملوث.
فما الذي أعطى «الريّس» كل هذه الثقة ليصدر إعلانه في واقع لا يوجد فيه اجماع حوله، وهو الذي فاز بهامش ضيق في الإنتخابات متفوقاً على أحد فلول العهد البائد؟ ما الذي يخيف مرسي ليُسرّع في خطوات الإنقضاض على السلطة وهو رئيس منتخب ومساند من مجلس نواب بأغلبية نواب «الإخوان» و«حزب النور»؟
والإجابة هي: إنها دون شك بصمات «حكومة الكواليس» أو «حكومة الظل» وهي حكومة غير مرئية تتخذ كثيراً من قرارات الحكم في مصر دون أن تكون جزءاً من السلطات العلنية وتتكون هاته الحكومة غالباً من القيادات النافذة في تنظيم جماعة «الإخوان المسلمين» والمتمثلة اساساً في أعضاء مكتب الارشاد العام برئاسة مرشد الجماعة الدكتور محمد بديع، ويبدو أن ما جاء من تحصين مرسي لقرارته انما هو تحصين لمن هم وراؤها حقاً.. «الجماعة».
بعد كل ما تقدم يمكن حوصلة التجاوزات التي نتجت عن اصدار الإعلان الدستوري للرئيس مرسي في ما يلي:
– الإعلان كان إجراءً غير توافقي في مرحلة تأسيس من المفترض أن تُبنى فيها المؤسسات وخاصة هيئة كتابة الدستور بإشراك كل ألوان الطيف المصري حتى تكون الهيئة أكثر تمثيلاً لأغلب مكونات الشعب في حين حصّن مرسي الهيئة التأسيسية لكتابة الدستور التي يغلب عليها الإخوان ويغيب عنها ممثلو شرائح واسعة من المجتمع المصري.
– الرئيس مرسي تصرف كرئيس حزب لا كرئيس دولة حيث حاول أن يبرر إصداره للإعلان الدستوري وسط جماهيره ولم يتوجه لكل المصريين عبر التلفزيون مثلاً.
– لم يشاور الرئيس مرسي ولم يستأنس حتى برأي اقرب مساعديه، حيث استقال سمير مرقص مستشار الرئاسة لشؤون التحول الديمقراطي، وكذلك استقالت المستشارة الرئاسية سكينة فؤاد كتعبير عن الرفض لما جاء في مضمون الاعلان ولكونهما لم يعلما بمضمون الاعلان إلاّ عبر الصحافة شأنهم شأن عامة الناس، فهل من المعقول أن لا يتشاور الرئيس مع أقرب المستشارين اليه، فمع من تشاور اذا ليصدر إعلانه؟
لم نشأ أن نذهب مباشرة الى الاجابة عن الأسباب الحقيقية والمباشرة لإصدار مرسي للإعلان الدستوري الجديد وقمنا بتقديم مداخل وتفصيلات حتى نصل الى النتيجة أو الاجابة بشكل تدريجي لنتمكن من فهم المسألة بمجمل طبيعتها، ولن يتسنى الفهم العميق لخطوة مرسي إلاّ إذا بسطنا نسق الأفكار أو الإيديولوجيا التي تقود الفعل السياسي للرئيس المصري ولكل المنتمين للإخوان المسلمين من ورائه.
ونتناول في ما يلي أهمّ القواعد المستقاة من النظام الأساسي للجماعة والتي تحكم نسق الأفكار لجماعة الإخوان والتي يمكن من خلالها أن نفهم ماجرى ويجري في مصر:
– مبدأ الحاكمية: حركة الإخوان المسلمين جماعة تدعو وتسعى الى «تحكيم شرع الله، والعيش في ظلال الإسلام».
– إحتكار الفهم للإسلام: فَهْمُ الجماعة للإسلام ملزم لكل الاعضاء
– الشورى: وهي لا تعني مشاورة أو استفتاء الشعب أو الأحزاب، بل هي شورى الجماعة وهي مُلزمة لجميع أفراد ومؤسسات الإخوان.
– الإلتزام بسياسات الجماعة ومواقفها تجاه القضايا العامة.
– سلطة المرشد: الالتزام بموافقة مكتب الإرشاد العام قبل الإقدام على اتخاذ أي قرار سياسي هام والمكتب العام للإرشاد هو الذي يرسم السياسة العامة للجماعة ويقرر كل مناحي الحياة السياسية.
هكذا نخلص الى أن الفكر الإخواني مبني وفق نسق إيديولوجي مغلق ينطلق من أسس الحاكمية وهي للّه، ونصها القرآن، لكن يظل فهم وتأويل النص فهماً خاصاً بالجماعة لا تقبل بغيره كما أنّ الشورى محدودة ومحصورة هي الأخرى في الجماعة لا تتعداها الى غيرهم. وكل عضو، مهما عظم أو صغر شأنه في الإخوان، ملزم في كل ما يصدر عنه من أعمال وسياسات بالمرجعية الإخوانية. ومن خلال المكنزمات والآليات التي تحكم علاقة الأفراد المنتمين «للجماعة» بنسق الأفكار والمفاهيم (الإيديولوجيا) التي توجه خط سير «الجماعة» وتحدد طبيعة الفعل السياسي في الواقع، يمكن فهم كل ما جرى وما سيجري في مصر بعد إعتلاء «الجماعة» سدة الحكم وعبر ذلك فقط يمكن فهم ما صدر من قرارات أو سياسات من الرئيس مرسي الرئيس الظاهر والحاكم بأمرهم.
Leave a Reply