يوم الجمعة فـي ١٩سبتمبر (أيلول) وعند الساعة الثانية بعد الظهر، أغمض مصطفى العبد حمود عينيه إلى الأبد، مسدلاً الستار على حياة حافلة بالعطاء امتدَّتْ ٧١ عاماً، ومسلِماً روحه الى الباري سبحانه وتعالى بعد معركة شجاعة مع مرض نادر فـي الدم، وذلك فـي راحة منزله تحيط به عائلته وأحباؤه الذين فجعوا برحيله المحزن.
لكن مصطفى، الذي أتى من بلدة تبنين اللبنانية، لم يستسلم للقدر بهذه السهولة، وكما لم يعرف الهوان فـي حياته الزاخرة، كونه رجلا غير عادي عاش حياة بنَّاءة وبرع فـي كل الجوانب وعلى جميع المستويات.
مصطفى حمود، الإبن الأكبر لفلّاح جنوبي، كما كان يحب وصف والده بفخر واعتزاز، وصل إلى أعلى المصاف المهنية وكان لا يتردد عن الوقوف وجهاً لوجه وبندِّية أمام الزعماء الأقوياء فـي مجالات الأعمال والسياسة والإجتماع. كان من صنف الرجال الذين يتحلون بصلابة وقوة وعزيمة لا تتزعزع، ومن الذين تريدهم أنْ يقفوا فـي صفِّك إذا كنت تخوض غمار أية معركة.
وعلى الرغم من أنه لم يحصل على شهادة جامعية بسبب ظروف اقتصادية قاهرة، فقد كان الراحل الكبير مثقَّفاً جيدا وعلى اطِّلاع واسع ودراية مقرونة برؤية سليمة وعزيمة ثابتة.
تولَّى طوال حياته المناصب القيادية التي سعَتْ اليه ولم يسعَ اليها، فتشرَّفَتْ به وكانت تكليفاً له، مما أكسبه احترام الأعداء قبل الأصدقاء.
ومع أنَّ سيرة حياة حمَّود تخللتها المشقَّات والصعاب والأشواك، لكنه حوَّلها إلى رحلة عمر رائعة حقق خلالها إنجازات عملاقة. فـي لبنان، أجبرته الظروف الاقتصادية للحصول على مهنة فـي مجال تدريس الرياضة فـي المدارس العامة المحلية فـي تبنين. وخلال فترة عمله كمدرس رياضي صنع معجزة رياضية وسجلاً تاريخياً بفوز ثلاثة من طلابه فـي بطولات وطنية بمختلف الألعاب الرياضية.
بعد فترة وجيزة، قام بدور قيادي طليعي آخر فـي بلدته حيث أنشأ النادي الاجتماعي لتنظيم الشباب وتأطيرهم فـيما بعد إجتماعياً وسياسياً.
فـي عام ١٩٧٥اندلعت الحرب الأهلية ودمرت بلاده فأخذ على عاتقه القيام بأية وسيلة ممكنة للحفاظ على بلدته وحماية شعبه. كان يعمل بجد وبلا ملل مع الفئات المتحاربة لوقف سفك الدماء مما جلب له السمعة الطيبة والاحترام من قبل جميع الأطراف. أتقن خيوط اللعبة السياسية، وأصبح قطب الرحى ومقصد الجميع فـي وقتٍ كانت بلاده تغلي فـي صراع دموي استقطب كل القوى السياسية.
غادر حمود فـي نهاية المطاف لبنان للبحث عن مهنة جديدة فـي مجال الصحافة لإعالة أسرته. فبرع هذه المرة فـي عالم الإعلام وصنع التاريخ من جديد عبر صفحات حريدة «الجزيرة السعودية» سرعان ما أكسبه احترام وتقدير كبار المحررين فـيها.
جاء ذلك بعد ان إتخذ الراحل مسارا وظيفـياً مختلفاً بقبوله وظيفة مترجم لشركة فرنسية كبيرة كانت متعاقدة مع وزارة الدفاع السعودية، حيث تألقت قيادته الاستثنائية ومهاراته مرة أخرى فارتقى ليصبح رئيس قسم الترجمة فـي الشركة الفرنسية العملاقة.
ولكن حب حمود وتعلُّقه ببلده أعاده إلى لبنان الذي بقي يعيش فـي قلبه رغم المسافات. إلا أن خسائر الحرب الأهلية خلَّفت آثاراً وجروحاً عميقة على الرجل المبدئي الذي يحمل ولاءً مخلصاً لأصدقائه الذين أصبحوا مهمَّشين بعد تغيير المشهد السياسي فوقف معهم رافضاً تقديم تنازلات ومساومات على معتقداته..
فـي منتصف عام ١٩٨٠، هاجر الفقيد إلى أميركا، مع زوجته وأطفاله الستة. ولم تكن رحلته إلى بلاد «العم سام» مفروشة بالورود، لكنه حوَّلها إلى محطَّة أخرى مضيئة فـي حياته بسبب مناقبيته وتصميمه الرائع وحس الانضباط والمسؤولية لديه.
مصطفى العبد حمود المعلم والسياسي والمترجم والصحفـي بدأ يواجه تحدياً مختلفاً فـي أرض أجنبية غريبة عن البلد الذي شغف قلبه، ومع ذلك استطاع أنْ يتألق ويبدع، من جديد، فـي العالم الجديد.
وصل إلى الغربة مع القليل من المال والكثير من العزيمة والأمل والتصميم، وبدأ المرحلة الاخيرة من محطة حياته من الصفر مستعملاً دهاءه وذكاءه الفطري وخبرته الواقعية فـي الحياة وسمات الريادة التي وُلدت معه من دون تصنُّع، فحقق ما عجز الكثير عن تحقيقه.
وبعد فترة من الصراع مع التحولات والانعطافات تمكَّن من تحقيق الحلم الأميركي. وهذا العام نشرت مجلة «ديترويت كرين» الاقتصادية تقريراً عن قصة حياة وإنجازات حمود وعائلته فـي صدر طبعتها الخاصة بعنوان «الحالمون الأميركيون».
لقد ركز الراحل حمود على إنشاء أسرة من المتفوقين فـي مجالات متعددة. وفـي هذا المجال، ترك إرثا نستطيع جميعاً أن نفخر به. فقد وصل أولاده الستة إلى مواقع ومناصب مشرِّفة أكاديمياً ومهنياً فمنهم القادة الناجحون فـي مجالاتهم ومنهم المحامون اللامعون وفـيهم المهندسون والأطباء ورجال الأعمال.
كان مصطفى حمود رجل تصميم وإخلاص ومثابرة، وهو لم يكن فقط أباً حنوناً وجدَّاًعطوفاً وزوجاً محباً وصديقاً صدوقاً فحسب، ولكن كان مثال الانسان الجنوبي الطيِّب إبن تبنين التي يشبه قلعتها، والذي يفوح من سلوكه مسك الوطن والرجل المتفاني فـي العطاء بلا حدود، والصديق المخلص، والمعدن النادر والقيادي الصلب الذي سوف نفتقده كثيراً لكن ذكراه العطرة ستبقى، وإرثه الكبير سيستمر.
إلى جنان الخلد يا صديقي.
أسامة السبلاني
Leave a Reply