شاءت الظروف الاقليمية والدولية التي تحكمت ولا تزال بمسار تطورات الازمة اللبنانية ان تتحول امارة قطر الصغيرة جغرافياً الى راعية لحل لبناني مرحلي يؤمل ان يطول ويؤسس لمرحلة من الاستقرار السياسي اذا هدأت التجاذبات والتوترات المحيطة بلبنان، البلد الصغير بحجمه الجغرافي ايضاً ولكن بموقعه الحيوي من حيث احتضانه لمجمل التناقضات والصراعات الاقليمية والدولية في منطقة غرب المتوسط.
بالطبع ليس بمقدور قطر ان تمارس الدور السوري الوصائي السابق في لبنان، وقد تواضع اميرها حمد بن خليفة آل ثاني خلال مؤتمر الدوحة الذي انتج اتفاقاً كان من ثماره الاولى عودة الرأس الى الجمهورية بعدما ينوف على ستة اشهر من الفراغ، عندما اقر بـ«حجم بلاده» وألمح الى التقاطعات العربية والايرانية والاميركية التي خولت قطر رعاية وانتاج «الحل» الذي انهى توتراً دام اكثر من سنة ونصف السنة قبل ان ينتقل الى الشارع ويهدد بتفجير امني كبير كان يخشى ان تطال شظاياه دول الاقليم وعدم التمكن من حصره على المساحة اللبنانية.
لكن الدور «الرعائي» لقطر مرشح للاستمرار الى جانب دول اخرى عربية مثل مصر والسعودية وغير عربية مثل ايران وتركيا التي اصر رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان على حضور جلسة انتخاب العماد ميشال سليمان رغم وضعه الصحي غير المريح.
والمرجح بقوة ان قطر التي مارست دور الاطفائي بعد اندلاع الحريق الاخير في الشارع اللبناني، سوف تجد اللبنانيين و«حلفاءهم» في الخارج يطرقون ابوابها المرة تلو الاخرى عندما تبرز مشكلات في طريق تنفيذ بنود الاتفاق الذي حمل اسم عاصمتها. وقد يكون مطلوباً من الدوحة صياغة البيان الوزاري لحكومة الرئيس الجديد – القديم المكلف فؤاد السنيورة وهذا الامر تحدث به مسؤولون قطريون علناً، طالما ان القيادات اللبنانية اثبتت بالتجربة الملموسة عجزها عن صياغة حلول بمفردها، رغم كل «الزجل الوطني» الذي يسمعنا اياه هؤلاء القادة على المنابر والشاشات ليل نهار.
ولما كانت قطر البلد الذي يحتضن، الى جانب ايران، ثاني أكبر مخزون احتياطي عالمي للغاز، فقد تتحول مصفاة الغاز الطبيعي الى «مصفاة سياسية» تمر من خلالها كل المواد الخام السياسية اللبنانية لتنقيتها من الشوائب.
فإذا نجحت قطر في تقديم بيان وزاري «جاهز» لفريقي الاتفاق تجنباً لتعقيدات تتعلق بدور المقاومة واستمراره وطبيعته (دفاعية ام تحريرية)، فقد تضطر لاحقاً الى التدخل لحسم الخلافات المحتملة حول التعيينات الامنية والقضائية والدبلوماسية. وإذ بات امير قطر خبيراً باسماء احياء العاصمة اللبنانية اكثر من خبرته بأحياء الدوحة على ما قال ممازحاً بعض اللبنانيين خلال «مخاض الدوحة» بسبب المداولات المضنية حول الدوائر الانتخابية في محافظة بيروت، فإن امامه وامام رئيس وزرائه ووزير خارجيته حمد بن جاسم الكثير من العمل والجهد والخوض باسماء ومواقع جديدة على ما قاموسهم اللبناني الذي كان يقتصر على اسماء الاماكن السياحية وبعض الاصدقاء فيما سبق.
غير ان المصفاة القطرية القادرة على «تكرير» التفاصيل الصغرى في مواد الازمة اللبنانية، ستكون على الارجح عاجزة عن «تكرير» المشاكل الكبرى حين استحقاقها واهمها واخطرها المواجهة المؤجلة بين مشروعي الدولة والمقاومة والتي يتهيأ لها الجميع وسوف تؤدي الى احدى نتيجتين لا ثالث لهما: اما انتصار مشروع المقاومة الذي يسعى الى ارسائه وترسيخه «حزب الله» وحلفاؤه الاقليميون، وبالتالي تحول لبنان نهائياً الى دولة مواجهة في الصراع مع اسرائيل والغرب واما قيام الدولة التي يجادل انصارها ان لبنان قد ادى قسطه في الصراع العربي – الاسرائيلي على مدى الاربعين ستة الماضية ودفع اثماناً كبيرة لم يعد قادراً على دفع مثلها في اي مرحلة قادمة من هذا الصراع.
على ان «حزب الله» يطمح الى استعادة معادلة تتوسط الاحتمالين الآنفين، وقد عبر امينه العام السيد حسن نصرالله عن هذا الخيار في كلمته يوم الاثنين الماضي بمناسبة عيد التحرير عندما قدم عرضاً لخيار التعايش بين «لبنان-هونغ كونغ» و«لبنان-هانوي» داعياً «تيار ومحبي رفيق الحريري الى الاستفادة من التجربة لهذا الرجل الكبير ومن آفاق تفكيره الاستراتيجي حول لبنان وهو الذي استطاع ان يوائم بين مشروع الاعمار والمقاومة بفعل كبير.. المقاومة مع عقل الرئيس الشهيد رفيق الحريري استطاعت ان تقول نحن لا نقلد احداً لا هونغ كونغ ولا هانوي.. نحن نقدم النموذج.. تستطيع ان تقدم بلداً فيه الاعمار والدولة والقطاعات الانتاجية والى جانبه مقاومة لا تمارس مهمة الدولة وانما تتحمل الى جانبها مسؤولية التحرير والدفاع عن الوطن..».
وهكذا توجه السيد نصرالله بصورة غير مباشرة الى زعيم الاغلبية النيابية سعد الحريري بالقول: «ومن كان وفياً لارث الشهيد الكبير عليه ان يحيا لاعادة هذا النموذج..». فيما أعلن الحريري وفريقه عن ترشيح الرئيس السنيورة لرئاسة الحكومة في رد غير مباشر على العرض الذي لا يبدو أن الحريري الإبن راغب فيه أو قادر على الخوض به.
لقد نجحت «مصفاة الدوحة» حتى الآن في انتاج رئيس للجمهورية و«حكومة وحدة وطنية» قيد التأليف (يبقى تجسيد هذه الوحدة رهناً بمسيرة العمل الحكومي ومدى انسجام مكوناتها خلال السنة القادمة من عمرها) وقانون انتخابات كرس الصيغة الطائفية وزاد من اعتماد بقاء الكيان اللبناني عليها. وهو الثمن المباشر لمنع اندلاع حرب اهلية – مذهبية بدت الى اللبنانيين اقرب من حبل الوريد خلال محنة الايام الستة التي عاشوها بين السابع والثاث عشر من ايار. وهذه المصفاة سوف تستمر في العمل بالطاقة الاقليمية والدولية وستظل الدوحة مرجع اللبنانيين في المرحلة القادمة لفض خلافاتهم الطارئة وإنتاج الحلول لها، وللحفاظ على حد ادنى من الاستقرار الامني والسياسي بانتظار التسوية الجديدة بين مكونات الكيان اللبناني التي وحدها سوف ترسم صورة لبنان ودوره في ازمات المنطقة لسنوات طويلة قادمة.
Leave a Reply