نبيل هيثم – «صدى الوطن»
قبل نحو عشرة أعوام عاش العالم أزمة نفطية حادة تمثلت فـي ارتفاع جنوني لأسعار النفط، حتى تخطى سقف سعر البرميل الـ150 دولاراً. الانفلات الذي حصل فـي الاسواق العالمية فـي ذلك الحين أثار مخاوف جدية من وصول سعر البرميل الى نقطة الذروة الكارثية عند سقف 250 دولاراً، وهو ما دفع منظمة الدول المصدّرة «أوبك» الى أن ترمي بثقلها لوقف هذا المسار التصاعدي الحاد، عبر زيادة سقف الانتاج.
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، نجح أعضاء «أوبك» فـي تحقيق التوازن بين الحفاظ على سعر نفطٍ كافٍ للوفاء باحتياجاتهم، وتوفـير كمية كافـية من النفط للحفاظ على دوران الاقتصاد العالمي. وقد توصلت المنظمة العالمية إلى الحفاظ على أسعار النفط عند سعر يتراوح بين 90 إلى 110 دولارات للبرميل.
اليوم يعيش العالم أزمة نفطية أخرى، ولكنها تتمثل هذه المرة بهبوط تاريخي فـي الاسعار العالمية، حيث سجل سعر البرميل، بحلول مطلع الأسبوع الحالي، أدنى مستوى له منذ أوائل العام 2009، اذ تراجعت العقود الآجلة لخام «برنت» القياسي والخام الأميركي الى ما دون الاربعين دولاراً، وسط مخاوف من أن قدرة العالم على تخزين الخام تنفد مع زيادة تخمة المعروض العالمي، ورفض «أوبك» إجراء أي تعديل على مستوى الانتاج، برغم المطالبات المتكررة من قبل الدول النفطية المتضررة الى خفض الانتاج، وبالتالي رفع الاسعار، ما يثبت نظرية يؤمن بها كثيرون، ومُفادها ان العالم ما زال يعيش بالفعل أجواء حرب نفطية.
هي حرب غير تقليدية تدور رحاها فـي الاسواق العالمية، بدلاً من جبهات القتال الميدانية، ويستخدم فـيها المال بدلاً من القذائف والصواريخ، ويتداخل فـيها الاقتصاد بالسياسة، إن لجهة المسببات أو لجهة النتائج المترتبة عليها.
ولا بد من التذكير بأن منظمة «أوبك» تعاني من فجوة عميقة بين مجموعتين، إحداها بقيادة أعلى منتج للنفط، السعودية، وحلفائها فـي الخليج، الذين يعتقدون أن بإمكانهم تحمّل أسعار النفط المتدنية، والمجموعة الأخرى بقيادة نيجيريا وفنزويلا وغيرها من البلدان التي تحتاج إلى ارتفاع الأسعار لتعزيز اقتصاداتهم الخاصة.
ولكن مع سيطرة السعودية المحكمة على اتخاذ القرار، فليس من المرجح أن تتعافى أسعار النفط على المدى القريب، فـي حين أن «أوبك» تضخ النفط بقوة فـي الأسواق العالمية فـي محاولة لاستعادة حصتها.
ولعل ما يعزز الحديث عن حرب نفطية هو أسباب ظاهرة التهاوي نفسها.
وثمة مفارقة مثيرة للاهتمام فـي انخفاض أسعار النفط، فهو يأتي فـي وقت يشهد العالم، على أكثر من جبهة، مجموعة من التوترات، بعضها يكاد يكون غير مسبوق منذ تسعينيات القرن المنصرم، سواء فـي سوريا والعراق وليبيا (دول منتجة) أو فـي اليمن (دولة عبور)، أو فـي نيجيريا، الدولة المنتجة التي تشهد حرباً مفتوحة على جماعة «بوكو حرام» المتشددة، هذا طبعاً بالإضافة إلى التوتّر غير المسبوق منذ الحرب الباردة بين روسيا والغرب على خلفـية الأزمتين الأوكرانية والسورية وسياسات التوسّع الأوروبية و«الأطلسية» نحو المجال الحيوي الروسي فـي الجمهوريات السوفـياتية السابقة.
ولعل أزمة واحدة من تلك الأزمات القائمة كانت لتكفـي، لو حصلت فـي ظروف عادية، لكي يصل سعر برميل النفط إلى ما فوق الـ120 دولاراً. لكن ما يجري اليوم -وهنا المفارقة الساحقة- هو أن الأسعار تنخفض. فلماذا؟
لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة فـي تحليل اسباب الانهيار الخطير فـي اسعار النفط العالمية.
وعلى المستوى الاقتصادي، يمكن وضع هذا الانهيار فـي سياق التطورات الدراماتيكية التي شهدتها اسواق الطاقة العالمية خلال السنوات الخمس المنصرمة، حين بدأ الانتاج العالمي يتحول بعيداً عن المورّدين التقليديين، بعد بروز توجه لدى شركات النفط الكبرى الى الاستفادة من الموارد النفطية والغازية غير التقليدية، والمتمثلة فـي حقول الوقود الصخري، وخصوصاً فـي الولايات المتحدة، التي ارتفع انتاجها من الغاز الصخري الى أكثر من 50 بالمئة سنوياً، ما رشحها لازاحة السعودية عن عرش أكبر مصدّر فـي العالم.
ويبدو أن هذه الطفرة النفطية التي حققتها الولايات المتحدة، دفعت بالاسعار الى التراجع قليلاً، ولكن الخيارات الاقتصادية للدول المصدرّة، وتحديداً السعودية، كان لها الأثر الكبير فـي هذا التهاوي الحاد الذي شهدته الاشهر الماضية على مدى السنة المنصرمة. فهذه الدول المصدّرة، مدفوعة بقلق كبير من احتمال أن يحل النفط الصخري مكان النفط التقليدي، اتخذت قراراً خطيراً قبل عام، وهو الإبقاء على مستوى الإنتاج من دون تغيير، وذلك بهدف تخفـيض الاسعار أكثر فأكثر، وبالتالي التأثير سلباً على إنتاج النفط والغاز الصخريين.
ولتوضيح المسألة اكثر، فإن السلاح النفطي الذي اشهرته دول «أوبك»، بضغط من السعودية، أسهم فـي خفض كلفة إنتاج برميل واحد من النفط الصخري بين 40 و50 دولاراً. وإذا أخذنا فـي الحسبان أن انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الستين دولاراً من شأنه أن يجعل الشركات النفطية الكبرى تعيد النظر فـي جدوى الاستثمار فـي الحقول الصخرية فـي الولايات المتحدة (بالنظر الى الكلفة المرتفعة لاستخراج النفط الصخري)، وقد تصرف النظر كلياً عن الاستثمار فـي هذا القطاع فـي حال هوى السعر إلى 40 دولاراً، وهو ما حدث بالفعل.
ولكن، إذا كانت حرب الأسعار تبدو فـي الظاهر صراعاً بين «النفط التقليدي» السعودي و«النفط الصخري» الأميركي، فهي تُظهر على المستوى الجيوسياسي تقاطع مصالح بين البلاط الملكي فـي الرياض والبيت الأبيض، خصوصاً أن الطاقة ما زالت العجلة المحركة للصراعات فـي العالم، كما اظهرت تجارب الماضي القريب.
وعليه، فإنّ ثمة توجّهاً لدى المحللين الغربيين، منهم توماس فريدمان، إلى القول أن ما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد من «حرب مضخّات» تستهدف إحداث تغييرات على المستوى الجيوسياسي فـي الشرق الأوسط، وأوراسيا، ووصولاً إلى أمريكا اللاتينية.
وكتب فريدمان فـي صحيفة «نيويورك تايمز»، فـي بداية هذه الحرب النفطية، أن الحديث يدور على فرضية اتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من أجل خفض أسعار النفط للضغط على موسكو وطهران.
ولعل المحرّكين المباشرين لهذه الحرب النفطية -السعودية والولايات المتحدة- يعتقدون أن روسيا قد تكون الخاسر الأول من حرب الأسعار، ربما فـي محاولة لتكرار سيناريو الثمانينيات، حين ادت زيادة الإنتاج النفطي ابتداءً من العام 1985 إلى هبوط الاسعار من 32 دولاراً للبرميل إلى 10 دولارات وهو ما شكل نقصاً فـي موارد الدولة السوفـياتية.
ولعلّ المقالة-الرسالة التي وجّهها مايكل ريغن، ابن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن، فـي آذار (مارس) من العام 2014، إلى الرئيس باراك أوباما، تقدّم صورة نموذجية لما يمكن أن يجول فـي ذهن بعض صنّاع القرار وقوى الضغط فـي الولايات المتحدة. فقد ذكّر ريغن بالإستراتيجية التي اعتمدها والده فـي الثمانينيات حين طلب من السعوديين إغراق السوق النفطية لضرب الاتحاد السوفـياتي فـي الصميم، وأوصى باعتماد إستراتيجية مماثلة ضد روسيا إلى أن تصير «عاجزة عن شراء ثيابها الداخلية».
ولكن ربما فات ريغن الابن، وغيره من صناع القرار فـي الولايات المتحدة والسعودية، أن «روسيا-بوتين» ليست روسيا السوفـياتية، فالرئيس الروسي انتهج منذ تسلمه مهامه الرئاسية فـي مطلع الثمانينيات خطة طموحة لتحديث الاقتصاد الوطني، عبر التركيز على القطاعات المنتجة، من التصنيع الى الزراعة، لتحصين دولته من تداعيات الازمات الاقتصادية والسياسية على القطاعات الاخرى، ولا سيما قطاع الطاقة وغيره من القطاعات الخدماتية، وقد تعززت هذه الخطة بشكل ملحوظ فـي العهد الرئاسي الثاني لقيصر الكرملين. ووفق مقاربة «النفط كسلاح سياسي»، تنسحب الخسائر على إيران أيضاً.
ومعروف ان الجمهورية الاسلامية ترغب من السعودية التقليل من الإنتاج لتتمكن من دخول سوق النفط العالمية بعد سنوات من انقطاعها عنها بسب العقوبات التي فرضت عليها بسبب البرنامج النووي، وربما هذا ما يشكل الدافع الرئيسي للسياسة التي تتبعها السعودية فـي شأن النفط، باعتباره السلاح الأقوى فـي الحرب الاقتصادية. والسعودية ليست بمزاج لإسداء أي معروف يصب فـي صالح إيران، خصوصاً فـي ظل التحولات الجارية فـي الشرق الاوسط، وسعي ايران لإعادة تثبيت موقعها ليس على المستوى الاقليمي فحسب، بل على المستوى العالمي، وهو ما أظهرته الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس بوتين الى طهران.
وتمتلك إيران 60 مليار برميل للنفط، وهذا فقط فـي الإقليم جنوب غربي البلاد، وقد تحضرت مطولاً لإعادة بناء بنيتها التحتية فـي قطاع النفط، لتنتظر رفع العقوبات وتبدأ بضخ النفط بمعدل 500 ألف برميل فـي اليوم، حتى يبلغ الإنتاج مليون برميل يومياً بنهاية عام 2016. وهذا المستوى سيرفع من إجمالي الإنتاج الإيراني ليبلغ 4.3 مليون برميل نفط يومياً، لتحل ثانية بعد السعودية فـي صدارة الدول المنتجة للنفط. وستكسب إيران من هذا الإنتاج حوالي 175 مليون دولاراً فـي اليوم، ولكن إن سمحت السعودية بعودة سعر برميل النفط لمرحلة الثمانين دولاراً للبرميل، فإن الأرباح الإيرانية سترتفع إلى 350 مليون دولار يومياً، وهذا ما لا يريده السعوديون ذلك أن الأرباح الإضافـية ستساعد على تقوية الدور الايراني.
ولعل الهدف الأساسي للسعوديين هو إبقاء سلطتهم فـي مركز القوة، وجميع القرارات المتخذة من قبل قيادة المملكة، حتى وان اضطر ملكلها وولي عهده وولي ولي عهده الى اطلاق النار بين قدميهم، كما يجري فـي قضية النفط.
ويعتمد الاقتصاد السعودي أساساً على النفط، وهو يمثل حوالي 90 بالمئة من إيرادات الرياض. وبدأت المملكة النفطية تعاني فعلاً من انهيار أسعار الطاقة، وثمة مسؤولون سعوديون اقترحوا حتى أن يتمّ استخدام الذهب كرديف للنفط، بمعنى أن يتم أيضاً الاعتماد على الذهب على اعتبار أنه سوق عالمي، أو أن يتم ربط سعر النفط بالذهب، لكن بعض المحللين الاقتصاديين فـي المملكة ثاروا على هذه الاقتراحات.
وبسبب الحرب التي تخوضها فـي اليمن وانخفاض أسعار النفط إلى مستوى لم يكن متوقعاً، أقدمت السعودية على سحب أكثر من 70 مليار دولار من أصولها وودائعها فـي الخارج من أجل دعم الاقتصاد الداخلي. لكن بعض المحللين يحذّرون من أن حرب اليمن قد تطول، كما أن سعر برميل النفط قد يبقى دون الـ50 دولاراً، وهو ما سيؤدي إلى إطالة الأزمة المالية فـي السعودية.
Leave a Reply