لطالما حلم الزواج وتأسيس عائلة راودني منذ عمر المراهقة، فرحت أحصي سنوات الدراسة اللازمة لأتخرج وسنوات العمل المطلوبة لـ”فتح بيت”. فثابرت وعملت جاهدا وطفت في عدد من البلاد لأكون جاهزا ومستعدا في عمر الخمسة والعشرين “لمشروع العمر”. كان هاجس الأبوة يلاحقني على الدوام، وانا الذي ما كان يتحمل حتى أن يسمع بكاء طفل او حتى مجالسة الأطفال. فكرت في كل شيء، في مواصفات العروس وشكلها وطباعها، في الخطوبة وفي العرس وفي المنزل وحتى أسماء الأطفال… أردت أن يكون ولدي الأكبر في عمر العشرين وانا لم أكمل الخمسين. لطالما أردت أن يكون فارق العمر بيني وبين أطفالي غير شاسع حتى أكون لهم والداً وصديقاً، قريباً منهم أرعاهم وأرشدهم وأراهم يحققون نجاحاً تلو نجاح في زمن أصبح للنجاح شروط وتنازلات…
كانت الفكرة دائماً ورديةً جميلةً، أكررها على مسمع أصدقائي وأهلي، أبني أحلاماً في خيالي وأؤمن أني سأحققها وبنجاح باهر.. فمرت الأيام، وتخطيت الخمسة والعشرين عاماً بسنون قليلة وبحسرة كبيرة.
مع ولادة ذاك الحلم الجميل، لم أعرف أن إيجاد شريكة العمر هو أمر صعب ومضن ولا يخلو من المخاطرة. وأنا أيضاً ذاك الذي آمن بمقولة “لمتلنا تعوا لعنّا” و”لبيخود من غير ملتو، بيموت بعلتو” وغيرها وغيرها من الحكم التي لا بد أن تتكرر على أفواه العاقلين حين يكون الإرتباط موضوع الحديث.
فعلى حد قول الشاعر نزار قباني “طفت الهند، طفت السند ولم أعثر على إمراءة …” فتعجبت من أمري وراحت التساؤلات تضج في أعماقي وفكري… أين أخطأت؟ ما الشيء الذي لم أفكر به؟ هل أنا العليل؟ لما لم تعجبني تلك، ولما لم تسحرني تلك الأخرى؟ لما كلما بحثت أكثر بدت المهمة أصعب، كما الذي يسبح في عرض البحر، فترميه الأمواج مجدداً عند شاطىء الحرمان ونقطة الصفر…
بدوت أمام نفسي وأمام أحلامي ضعيفاً مكسوراً، أشعر أن حالي قد ألف الوحدة، فأخاف أن أتعايش وهذه الوحدة فأصبح رافضاً لقبول أي شخص آخر في حياتي… فقمت بجولات أخرى، وبدأتْ شروطي تنخفض وبدأتُ أقنع نفسي ببعض التغيرات التي لم أكن مقتنع بصوابيتها… وجدتني أقنع نفسي بمفردات الإنحناء في وجه العاصفة وتقبل فكرة تقدم العصر ومتطلبات الحياة، والإنفتاح والتطور، والعلاقات الإجتماعية المزيفة وغيرها من المعايير الإجتماعية التي طغت على مجتمعاتنا وأفكارنا وثقافتنا والتي لا تمت لنا بصلة…
وبعد حين، وفي خلوة مع النفس قمت بإستعراض مراحل هذا الحلم، وتقييم تجربتي بكل صدق وشفافية، مع الحذر الشديد من الوقوع بفخ التعجرف وحب النفس والتكبر…
طبقت مبدأ “العرض والطلب” الى حد ما، فوضعت أمامي لائحة بطلباتي ولائحة بما كان “معروضاً” واشدد على كلمة “معروضاً” بكل ما للكلمة من معان مباشرة وتضمينية… وياليتني لم أفعل…
لائحة الطلب كانت بسيطة وغير معقدة بتاتاً، إذ اني ظننت أن هذه المواصفات تكاد تكون متوفرة في جميع فتيات مجتمعنا المصون وأن عامل الحب والإنجذاب هو الذي يختار شريكة الحياة.
فتاة متعلمة، تملك الحد الأدنى من الذكاء الإجتماعي وسرعة البديهة، تنحدر من عائلة محترمة معروفة بحسن السمعة وطيب الأخلاق، فتاة ولدت وترعرعت في ظروف طبيعية هادئة ومستقرة، فتاة مؤمنة وتعيش إيمانها في جميع تفاصيل حياتها، فتاة تقدّر أهلها وأفراد عائلتها وتفخر بهم، فتاة مثابرة وطموحة تحب العلم والمعرفة وتعلو عن قشور الحياة. لم يكن الجمال الجسدي رغم أهميته مطلباً أساسياً وقاطعاً.
أما لائحة العرض فقد كانت صورة معاكسة تماماً لهذا العرض، رغم أن النظرة الأولى توحي بتوفر العرض والطلب، ولكن جميعنا يعلم أين تكمن الشياطين…
في لائحة غير قصيرة وجدت ما يلي: وجدت عارضات أزياء يتجولن حولي على مقاعد الدراسة، حيث التبرج والكعب العالي كانا أبرز الحاضرين حتى في صفوف الثامنة صباحاً، ولم يكن حضور معظم أولئك الفتيات أكثر من واجب إجتماعي لابد منه بعد الإنتهاء من المدرسة، فعرفت معنى “علم لا ينفع” من زاوية جديدة. وما كان ذاك الذكاء الا ذكاء غرائزي لضرورة البقاء في مجتمع طفت على وجهه سخافات لها بداية دون نهاية. فتيات كل ما زاد تحصيلهن العلمي زاد تعجرفهن وكبريائهن وشعورهن بالإستقلالية، فما يزيدهن هذا الشعور إلا نفوراً.
أذكر ان صديقة مقربة لي قد قالت لي يوما نقلاً عن عمتها العجوز وهي تسديها بعضاً من النصائح “لما تفوت الشهادة من الباب، بيطلع الرجال من الشباك” وفي هذه المقولة التي قد تبدو متخلفة ومحرضة على حقوق المرأة من الحكمة ما يكفي لتكون واقعية ربما أفصلها في بحث إجتماعي لاحق.
وعندما بحثت عن عائلة كريمة متواضعة، وجدت هذه العائلات نفسها تبحث عن رجل تحقق العائلة فيه وبجميع أفرادها متطلبات مجتمعنا السخيف، فتجد بعض الأمهات تعلم بناتها على أساليب الصيد الصحيح، فتعطيها بنت الجيران مثالا وقريبتها مثالا آخر، وتصر عليها أن ترى كيف ان هؤلاء الفتيات كن أقوياء الشخصية ومتمردين في علاقاتهن، وكيف أن كل تلك العلاقة والزواج كان حسب تفصيلهن، وكيف أن الفتاة يجب أن تبحث عن الرجل صاحب الكنز الذي يكون الحب قد أعماه فيكون “كخاتماً في أصبعي… سترونه بين يدي أضعف من ضعيف…” فهذا الوصف لا يعني أن جميع العائلات هي كذلك لكن بمجملها وخصوصاً اولئك الذين يسارعون الى نبذ هذه الأفكار ويرددونها صبح مساء.
ومن الفتيات أيضاً من تخجل بعائلتها وأهلها، أو حتى تحتقر واقعها ومركزها الإجتماعي، فترسم لك عالما جميلاً من حياتها، وتبقيك بعيداً ما إستطاعت عن واقعها… وإذا ما دخلت هذا العالم يوماً وجدت انه لا يتصل بالواقع بصلة. فبعض الأحيان تقابل أبوين عطوفين كريمين متواضعين تشعر بالقرب منهم، الا ان تصرف ابنتهم تجاههم يجعلك تبعد وتخاف العدوة. ومن العائلات أيضاً أن تجد رب المنزل لا يتعدى كونه لوحة مبتسمة أو غاضبة حسب ما يكون قد طلب منه، او قد تجد ان العلاقة بين افراد هذه العائلة بعضهم البعض يشوبها قلة الإحترام والتعاطف…
اما عن فعل الإيمان فحدث ولكن “بحرج”، فما بقي من دين الله الا مظاهر بالية منها مستتر تحت حجاب يكشف أكثر مما يستر، او ممارسات دينية خجولة لا تتعدى كونها طقوس فارغة من كل ايمان وعمل صالح، فيصدق قول الإمام علي “ما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج” و”ما ابعد الإسلام عن المسلمين” و”خذوا مسيحيتكم واعطوني مسيحكم”…
وعن حب العلم والمعرفة والتي لها بنظري من الأهمية ما يجعلها طلبا ملحاً، اذ ان على الأم نقل هذه المعارف الى أولادها خلال تربيتهم. فما عدت يا علم الا شهادة تلصق على الجدار ويستدل عليها في سيرة ذاتية للحصول على وظيفة مرموقة تحفظ الأصول الإجتماعية وتزيد المرأة سلطة وجرأة وكبرياء، حتى لا أقول وصفاً يخدش أنوثة من لاتزال تحتفظ بالبعض منه.
يا بنات الحلال أعيدوا النظر في حساباتكن، إعلمن أن من الرجال والشباب أعداداً كثيرة يرون فيكن مثل ما أرى، وقد بنوا أحلاما من المفترض أن تكمّل بكن، وهذا ليس بتسلط ذكوري او تخلف شرقي، او تزمت ديني أو فلسفة جاهل، بل هو واقع يدفع مَن حولكن من شباب الى البحث بعيدا عن هذه البيئة المسمومة. أقولها وبكل صدق: الرجل يبحث عن صديقة صدوقة في حياته، وام حكيمة وفاضلة لأولاده، لا عن عارضة أزياء ولا ملكة جمال الكون، فبفضل عمليات التجميل كلكن جميلات ولكن…
عاش “الفيسبوك” وعاش “البلاك بيري” أو “البي بي”، عفوا، وعاش عصر النساء!!!
Leave a Reply