الشرق الأوسط أمام تحوّلات جديدة متسارعة. هذا ما تشي به على الأقل مجموعة أحداث عابرة للحدود، من سوريا والعراق، مروراً بمصر وفلسطين، ووصولاً إلى منطقة الخليج.
هذه الأحداث معظمها غير مترابط بشكل مباشر، ولكنها تعكس انقلاب التحالفات أو إعادة ترتيب للتحالفات والتموضعات الإقليمية، حتى لكأنها قطع، بأحجام متفاوتة، من رقعة «بازيل» يجري تركيبها، لخريطة الشرق الأوسط الجديد.
يبدو المشهد الإقليمي، إذا ما تمّ التمعّن به عن قرب، مجرّد نقاط مبهمة، تسودها غشاوة المعارك الميدانية والسياسية، ولكن الرجوع قليلاً إلى الخلف، والنظر عن بعد، لا شك أنه سيتيح للمراقب تجميع النقاط في مشهد جامع، يمكن من خلاله تحديد ملامح النظام الإقليمي الجديد، بكل تناقضاته وتحالفاته وتحوّلاته.
داعش يلفظ أنفاسه
ولعلّ الإعلانات الصادرة من الولايات المتحدة وروسيا حول مجريات المعركة ضد «داعش» تشي بأن حقبة الرايات السود باتت خلفنا، أو أنها تتجه لكي تصبح كذلك، ففي العراق، تبدو العاصمة الأولى لـ«خلافة» أبي بكر البغدادي على قاب قوسين أو أدنى من السقوط، بعدما باتت القوات العراقية في المربع الأخير لمناطق سيطرة التكفيريين في الموصل. وأمّا العاصمة الثانية، الرقة، فيبدو سقوطها محتّماً، بعدما حصل أكراد الشمال السوري على الضوء الأخضر لبدء عملية استعادة السيطرة على المدينة.
وإن دلّت تلك التطورات الميدانية على شيء، فهي تعكس سقوط ورقة التوت، أو بعبارة أدق الأداة، التي لطالما استخدمت أميركياً في تنفيذ مخطط تقسيمي للمنطقة العربية، عبر القوى الظلامية بعدما أحرقتها السوخوي الروسية وبطولات الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان من جهة، والقوات العراقية و«الحشد الشعبي» في العراق من جهة أخرى، حتى التقت القوات الأسبوع الماضي عند الحدود التي خطها سايكس بيكو قبل أكثر من قرن من الزمن.
ولعلّ ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية، على خط الرقة – تدمر، يشي بأن «داعش» بات ورقة محروقة بالنسبة لداعميه.
هذا الأمر تبدّى، حين حاولت الولايات المتحدة استخدام ما تبقى من «جهاديين» في الشمال السوري، لتقويض الانتصارات الساحقة التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه في البادية السورية، من خلال السماح بعقد اتفاق بين «الدواعش» و«الأكراد»، لانسحاب الإرهابيين من الرقة باتجاه تدمر ودير الزور، وهو ما ووجه برد فعل روسي سريع، تمثل في كشف الاتفاق من جهة، واطلاق صواريخ استراتيجية من البحر الأبيض المتوسط باتجاه قوافل «الجهاديين» المنسحبين، في رسالة واضحة، تتجاوز الميدان إلى السياسة.
ولا شك في أن انحسار المواجهة مع التنظيمات التكفيرية في المربعات الأخيرة، سواء في الرقة والموصل والبادية (بالنسبة إلى «داعش»)، ومحافظة ادلب المحاصرة (بالنسبة إلى «جبهة النصرة»)، مضاف إليه إعلان روسي بـ«انتهاء الحرب الأهلية في سوريا»، بعد نجاح تجربة مناطق خفض التوتر، وما تلا ذلك من تصعيد أميركي في المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق (التنف)، كلها مؤشرات على أن ثمة تحوّل استراتيجي في المعركة لصالح التحالف السوري–الروسي–الإيراني، في مواجهة التحالف الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي بات مفككاً أكثر من أي وقت مضى بعد سبع سنوات من المحاولات الشرسة لإسقاط الدولة السورية.
هذا التحوّل يبقى مرتبطاً بطبيعة المجريات الميدانية التي ستشهدها المعركة الكبرى، التي يخوضها السوريون مع حلفائهم ضد داعش والقوات الموالية لأميركا على الحدود الشرقية والجنوبية، فإذا أمكن، وفق ما هو واضح، اعادة السيطرة على المعابر، نقطتاها الأساسيتان دير الزور والتنف، سيعني ذلك من الناحية الاستراتيجية، استعادة التواصل الجغرافي الحيوي بين إيران وسوريا، مروراً بالعراق، ووصولاً إلى لبنان، مع كل ما يترتب على ذلك من قلب للمعادلات، التي من أجلها جرى احتلال العراق (2003)، ومحاولة تدمير سوريا (2011)، وبينهما حرب تموز العام 2006 على لبنان.
هذا التحوّل الاستراتيجي، الذي لن يكون تحقيقه بعيد المنال، لا شك أن المحور المضاد، الذي تقوده الولايات المتحدة، سيعمل على تعويض الخسارة فيه، من خلال محور آخر، يشمل الشطر الجنوبي من الشرق الأوسط، وهو ما عكسته بطبيعة الحال الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية الشهر الماضي، وما تلاها من تحرّكات وتطوّرات سريعة، تعكس رغبة الإدارة الأميركية في بناء على المحور الجديد، بالسرعة ذاتها، التي تسير فيها التحولات في الشطر الشمالي (سوريا والعراق).
زعامة السعودية
انطلاقاً من ذلك، لا يمكن فهم الأزمة الخليجية سوى في إطار السعي لتكريس زعامة إقليمية جديدة للسعودية. ومما لا شك فيه أن خطوات «عزل» قطر، يتجاوز في حيثياته مجرّد اختراق الكتروني، أو حتى غضب على تصريحات سياسية خرجت من الدوحة، وناقضت التوجهات العامة التي يريد فرضها التحالف السعودي–الأميركي، فأساس تلك الأزمة، هو إظهار «قوة» نظام آل سعود، كلاعب إقليمي رئيسي، وقدرته على «عزل» أو «تركيع» باقي الدول الواقعة في فلكها، أو بعبارة أدق ضمن المحور الجديد الذي وضعت زيارة ترامب للسعودية لبنته الأولى.
ولا شك أن في ذلك رسالة واضحة تتعدى قطر، إلى دول إقليمية أخرى، من الكويت وعمان، وصولاً إلى مصر، ومفادها أن «العزل» و«التركيع» سيكون مصير أي طرف يعارض الإرادة الملكية لنظام آل سعود.
انطلاقاً من ذلك، يمكن على سبيل المثال فهم مسارعة الجانب المصري إلى احتواء أي توتر محتمل مع السعودية، بعد الحكم التاريخي الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري في كانون الثاني الماضي، والمثبت للسيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير. انطلاقاً من ذلك أيضاً، بدا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مصراً على نزع فتيل أي توتر مع السعودية، من خلال تمرير اتفاقية الحدود البحرية، في فترة سريعة لم تتجاوز الأربعة أيام، متجاهلاً التداعيات الداخلية الخطيرة لقرار كهذا وانعكاساته على الأمن القومي لمصر، خصوصاً أن اقرار الاتفاقية من قبل البرلمان المصري، قد أتى في خضم رفض شعبي للتنازل عن الجزيرتين، وفي ظل مخاطر كبيرة بتصادم السلطات الدستورية في مصر، بالنظر إلى التعارض بين البرلمان والقضاء، حول هذه المسألة، لا بل استخفاف رئيس مجلس النواب المصري، بما صدر عن محكمة القضاء الإداري، واعتباره و«العدم سواء».
ويبدو واضحاً أن السعودية تريد هذه الاتفاقية، أو بشكل دقيق الحصول على الجزيرتين، لأسباب تتجاوز مسألة الترتيبات الحدودية مع بلد مجاور، فالتدقيق في خلفيات الإصرار السعودي على الاستحواذ على تيران وصنافير، يظهر رغبة سعودية في جعل الجزيرتين ممراً لإقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل.
وللتوضيح، فإن تيران وصنافير، اللتين شكلتا محوراً أساسياً للصراع بين مصر وإسرائيل، منذ احتلال الأخيرة لمدينة أم الرشراش (ايلات) في العام 1949، وكانتا عنواناً لحربين خاضهما الطرفان في العامين 1956 و1967، قد باتتا جزءاً لا يتجزأ من اتفاقية كامب ديفيد، أولى معاهدات الصلح بين العرب وإسرائيل. ولا شك في أن انتقال تبعية تيران وصنافير للسعودية سيعني أن السعودية قد باتت جزءاً من تلك الاتفاقية، وسيسمح لها ذلك بالتالي، بجعل اتصالاتها مع الكيان الصهيوني علنية، طالما أن ثمة «أرضاً تملكها» في صلب اتفاقية السلام.
وبذلك، سيصبح متاحاً، وفي فترة قياسية، نقل الاتصالات السرية الجارية بين السعودية وإسرائيل منذ فترة طويلة، إلى اتصالات رسمية وعلنية، لا شك أن ستثمر سريعاً تعاوناً وتنسيقاً في العديد من الملفات الشرق أوسطية، بما في ذلك الملف الإيراني، فتكتمل بذلك أضلع «المحور الشرق أوسطي الجنوبي» الذي تدعمه الولايات المتحدة، لمواجهة «المحور الشرق أوسطي الشمالي»، الذي تدعمه روسيا.
ومن المؤكد أن ذلك سيستتبع تسويات عديدة، تبدأ بمحاولات تحييد لبنان عن الصراعات القائمة، بحجة حماية الاستقرار الهش في هذا البلد، ولعل ذلك ما يفسر التفاهمات السياسية التي بدأت تتمظهر في الحياة السياسية اللبنانية، منذ التفاهم على انتخاب رئيس الجمهورية وصولاً إلى الاتفاق على قانون الانتخاب.
وعلى جانب آخر، فإن تلك التسويات ستشمل القضية الفلسطينية، التي تجري محاولات حثيثة لإنهائها، بترتيبات مع الكيان الإسرائيلي، لا تستثني أحداً، بما في ذلك حركة حماس، التي تبنّت، في وثيقتها الأخيرة، ما انطلقت منه منظمة التحرير الفلسطينية في اواخر الثمانينات، للمضي في تسوية أوسلو.
تركيا بيضة القبان
مع خلط الأوراق الجاري في الشرق الأوسط، واعادة ترتيب التحالفات والتموضعات، فإنّ الخريطة الجديدة لن تكتمل من دون عنصر فاعل، يسعى اليوم إلى تحقيق اختراق هنا أو هناك، والمقصود بذلك تركيا، التي من شأن خياراتها أن ترجح الكفة لهذا المحور أو ذاك، باعتبارها بيضة القبان في التموضعات الجديدة.
وحتى الآن، لا تزال تركيا في موقع وسطي بين انتمائها التقليدي لحلف شمال الاطلسي، وتحالفها القديم مع الولايات المتحدة من جهة، وبين تطلعاتها الجديدة، باتجاه الشمال، أي نحو العلاقات الاقتصادية والسياسية مع روسيا، التي استعادت في فترة قياسية نفوذها الاقليمي والدولي…. ولا شك أن الموقف التركي سيكون حاسماً في المشهد الاقليمي الجديد.
ويبدو واضحاً أن تركيا قد باتت اليوم أمام ثلاثة خيارات في الترتيبات الجديدة، فإما ان تجدد تحالفها مع الولايات المتحدة، لتصبح بذلك المعركة المقبلة بين المحورين الروسي والأميركي في الشمالين السوري (حيث باتت السيطرة للأكراد تحت مسمى قوات سوريا الديموقراطية) والعراقي (حيث يستعد اقليم كردستان لاجراء استفتاء على الاستقلال)؛ أو تختار التحالف مع روسيا – وبالتالي إيران – لتصبح بذلك لاعباً شرق أوسطياً وازناً، قادراً على مقارعة السعوديين بالورقة القطرية…. أم تسلك خياراً وسطياً، يمنحها هامشاً للمناورة والاستفادة من التناقضات.
دولة داعش تتبدد في سوريا والعراق
لقراءة مسارات معارك تحرير البادية السورية تلزم خمس خرائط لخمس محافظات. يتقدم الجيش السوري وحلفاؤه على محاور عدة، متباعدة جغرافياً، مترابطة استراتيجياً. المعارك الدائرة في أرياف حمص وحماة وحلب والرقة ودير الزور تندرج جميعاً في إطار معارك تحرير البادية وتطهير الحدود العراقية السورية في جانبيها، حيث تتقدم القوات العراقية مدعومة بالحشد الشعبي على عدة محاور لينحصر داعش الإرهابي في أربعة معاقل رئيسية له بعد أن كان قد سيطر قبل بضع سنوات على معظم الخارطة العراقية ووصل إلى تخوم بغداد.
فارقٌ كبيرٌ يُلاحظ في الخريطة العراقية، بين عامي 2014 و2017، وتحديداً بين رمضاني السنتين.
ففي حزيران 2014، سقطت مدينة الموصل، عاصمة الشمال العراقي، بيد «داعش». تمدّد التنظيم بشكلٍ دراماتيكي، سريع وخاطف. كاد المسلحون أن يصلوا إلى بغداد، إلا أن حزام العاصمة حال دون سقوطها.
ومن الموصل، أعلن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، في خطبته الشهيرة، قيام «دولة الخلافة»، متمسّكاً بشعارها «باقية وتتمدّد». وفي حزيران 2014، أيضاً، وبعد أيام على السقوط، دعت المرجعية الدينية العليا في النجف إلى «الدفاع عن المقدّسات والحرمات». لبّى العراقيون نداءها، وانتظموا –بأمر ديواني لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي– تحت مسمّى «هيئة الحشد الشعبي».
وبعد ثلاث سنوات، تنتظر الموصل لحظة تحرّرها بالكامل من قبضة «داعش»، وفيما يواصل «الحشد» تمدّده في البلاد، وصولاً إلى الحدود السورية، ليصبح قوّةً وازنة تدخل المعادلات الإقليمية، فإن «داعش» مستمرٌّ في انحساره، بعد خسارته لأكثر من 80 بالمئة من مساحات سيطرته في العراق حتى انحصر في منطقة الحويجة وتل عفر والقائم ومحيطها في صحراء الأنبار.
أما في سوريا فقد تمكن الجيش وحلفاؤه، منذ الإعلان عن مناطق خفض التوتر برعاية روسية–تركية–إيرانية في أستانا، من استعادة حوالي ٣٠ ألف كلم مربع من قبضة داعش ويواصل زحفه على مختلف المحاور بهدف تطهير المحافظات الشرقية ضمن ما أطلق عليه «عملية الفجر الكبرى»، فيما يبقى معبر التنف التحدي الأكبر أمام استعادة السيطرة على الحدود مع العراق، حيث تتمسك الولايات المتحدة بالسيطرة على المعبر القريب من الحدود الأردنية.
أما الرقة التي بدأت «قوات سوريا الديمقراطية» معركة تحريرها من داعش، فإن الجيش السوري قد بات على مشارف مناطق الاشتباك في محيطها بعد استعادة مئات القرى والبلدات في ريفي حلب والرقة باتجاه الرصافة، التي تتقدم القوات السورية في صحراء تدمر باتجاهها عبر محور السخنة.
Leave a Reply