محمد العزير
لم يحسم استلام الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة جو بايدن السلطة، ومباشرة مهامه من البيت الأبيض في واشنطن، مصير المشهد السياسي الأميركي المشوّش، في ظل إجراءات عزل الرئيس الأرعن السابق دونالد ترامب والتي تبدأ في مجلس الشيوخ خلال أسبوعين، (للمرة الثانية خلال أقل من 13 شهراً)، واستمرار التحقيقيات والمحاكمات الأولية لقادة المشاركين في «غزوة» الكونغرس من عنصريي ومتطرفي المحافظين ونظرية المؤامرة، الذين حاولوا بتوجيه من ترامب ومعاونيه وتغاضٍ من الحزب الجمهوري وإيحاء من الإعلام اليميني، الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتحويل أميركا إلى نظام أوتوقراطي يقوم على عقيدة «تفوّق» العرق الأبيض.
وفيما تكشف التحقيقات المكثفة التي تجريها الأجهزة المختصة في أكثر من 12 ولاية، ومقاطع الفيديو والتسجيلات التي صودرت من الموقوفين أو نشرتها بعض وسائل الإعلام وتصريحات بعض قادة المشاركين في «الغزوة»، أن ما حصل في السادس من كانون الثاني الحالي، في واشنطن العاصمة، لم يكن مجرد اقتحام عفوي من قبل جمهور منفعل، لمبنى الكابيتول الذي يضم مجلسي الكونغرس ويرتقي إلى منزلة القداسة من حيث رمزيته كصرح لإرادة الشعب الأميركي كونه مقر السلطة الأولى في الدستور، بل كان عملاً مدبراً ومنسقاً على أعلى المستويات لعرقلة المصادقة الدستورية على نتائج الانتخابات الرئاسية وافتعال مواجهة دموية وتنفيذ اغتيالات لشخصيات مسؤولة (مثل نائب الرئيس مايك بنس الذي كان يقوم بدور رئيس مجلس الشيوخ، ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي) لخلق فراغ دستوري يسمح لترامب بإنزال الجيش وتعليق نتائج الانتخابات للبقاء في سدة الرئاسة.
لم ينه فشل المحاولة «الانقلابية» مسعى المتواطئين مع ترامب، فبعد استعادة السيطرة الأمنية على المبنى وطرد «الغزاة» واستئناف عملية المصادقة الدستورية على نتائج الانتخابات، أصرّ غلاة المؤيدين للرئيس السابق من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب على سياسة العرقلة وإن كان بحماس أقل من بقية أعضاء الحزب الجمهوري الذين عاشوا مع زملائهم من الحزب الديمقراطي لحظات رعب حقيقية في جو من انعدام الثقة ببعض الموتورين من الشيوخ والنواب اليمينيين أمثال السناتور تيد كروز وجوش هاولي، والنائب جيم جوردان وديفين نونيز وسكوت بيري وغيرهم (الذين تحوم الشبهات حول دور لهم في ترتيب جولات لمقتحمي الكابيتول قبل يوم من «الغزوة» لمعرفة مواقع القاعات ومكاتب كبار المسؤولين)، فيما كان مساعدو ترامب المقربون يجرون اتصالات هاتفية ببعض الأعضاء المترددين طالبين منهم مواصلة العرقلة. لم تكن القصة مجرد حماقة فورية، بل كانت محاولة انقلاب فاشلة.
من السهل بعد فشل المحاولة حصر المسؤولية في شخص ترامب النرجسي المهووس بالسلطة، إلا أن الوقائع والارقام تكشف بلا مواربة أن المشكلة أبعد من ترامب، ولن تزول برحيله. ففي الوجه العاجل منها لا تعتبر أكثرية كبيرة من المحافظين (أكثر من 70 بالمئة) جوزيف بايدن رئيساً شرعياً، وتعتبر نسبة أقل منها ببضع نقاط أن الانتخابات الأخيرة مزورة، وتصر أغلبية جمهورية بسيطة على أن ترامب هو الرئيس الشرعي. بطبيعة الحال كان لرفض ترامب قبول النتائج وتكراره اليومي لكذبة تزوير الانتخابات وترويجه لنظريات المؤامرة الدور الأكبر في صياغة هذا الموقف لدى المحافظين، لكن أقواله وافعاله لم تكن السبب في ذلك، بل كانت الصاعق الذي انفجر في بيئة قابلة خضعت في العقود الخمسة الأخيرة لعملية «تعبئة» استمدت مصادرها من التاريخ العنصري للولايات المتحدة، ونوّعت مواردها المتطرفة من جملة محطات ينبغي ذكرها ولو بالعناوين حتى لا يكون الانطباع بأن ما حصل كان مجرد صاعقة في سماء صافية.
منذ إقرار قانون الحقوق المدنية في عهد ليندون جونسون والذي أنهى رسمياً (لا فعلياً) آخر أشكال التمييز العنصري ضد السود والملونين في ستينيات القرن الماضي والذي سبقه تحرير قانون الهجرة إلى أميركا التي كانت في حاجة إلى جميع أنواع الأيدي العاملة والأدمغة والرساميل في اقتصاد ينمو بوتيرة هائلة، بدأ شعور «التفوق» في الضمور لدى المؤمنين بسيادة العرق الأبيض. لم تكن عمليات الاستيعاب المعنوي و«التنسيب» إلى العرق الأبيض لمن كانوا لتاريخه في عداد «الغرباء» مثل الأيرلنديين والإيطاليين واليهود كافية لضمان التفوق الديموغرافي الأبيض «سياسياً»، كم لم يضمن التحول الحزبي للجنوب من الحيز الديمقراطي (العنصري) إلى الحيز الجمهوري الذي تبنى العنصرية علناً، الغلبة الانتخابية للمحافظين والتي انتهت عملياً بعد رئاسة جورج بوش الأب خليفة رمز هذا التحول رونالد ريغان.
وزاد ضمور القطاع الزراعي بسبب المكننة والجنوح الليبرالي للضواحي الحديثة الوجود والاندماج السريع للأقليات الإثنية المهاجرة حديثاً في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، من مشاعر الضيق لدى «الرجل الأبيض» الذي بدأ وصفه منذ عهد ريغان في مطلع الثمانينيات بـ«الرجل الأبيض الغاضب» إزاء نجاحات الملونين، وجاءت ثورة الانترنت بعد زوال «الخطر الشيوعي» مع نهاية الحرب الباردة، وقبل شيوع العولمة لتزيل آخر العصبيات السياسية للعرق الأبيض. وعلى الرغم من الخصوصية الأميركية المستمدة من الطابع الديمغرافي والتاريخ العنصري، أصبحت معضلة الحفاظ على «التفوق الأبيض» عالمية وتجلت في صعود أنظمة شبه شمولية وحركات يمين متطرف ونازية جديدة في أوروبا ترجمت نفسها في ظواهر «الرجل القوي» في إيطاليا بيرلسكوني، والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإطاحة المؤسسات الحزبية القديمة التي لم يبق منها إلا الأسماء في كل الدول الديمقراطية الغربية ولم تنج منها أميركا الجنوبية ولا أستراليا.
هكذا جاء دونالد ترامب عام 2016 إلى رأس السياسة الأميركية وكأنه حصان أسود. لكن الحقيقة أنه جاء تتويجاً لمسار عمره عقود ليمثل اكبر خطر يواجه السلوك الديمقراطي ليس في أميركا وحسب، وإنما في كل العالم سواء بمجتمعاته الديمقراطية التي وجد يمينها في ترامب مثالاً لا غبار عليه مؤسسياً (في النهاية أميركا منارة الديمقراطية… فلا بأس ببوريس جونسون في لندن أو سكوت موريسون في كانبيرا أو بولسونارو في برازيليا، بعد بيرلسكوني في روما)، أو المجتمعات الشمولية التي رأت في ترامب وجهاً حقيقياً لـ«زيف» المزاعم الديمقراطية، فأصبح بعض الطغاة أصدقاءه –روسيا وكوريا الشمالية والفيليبين– فيما كان الطغاة المناوئون لأميركا يرون فيه «نعمة» تبريرية للقمع أكثر والدعاية المضادة.
من الصعب الإحاطة بكل أسباب المعضلة العنصرية البيضاء، في زمن أصبحت فيه شركة «جاغوار» مملوكة لشركة هندية، وصانع صواريخ أميركا الفضائية من جنوب أفريقيا، ودبي تنافس لندن كمركز استثمار وتبادل تجاري، فيما تفرض العملة الرقمية غير المرتبطة بدولة أو مصرف مركزي نفسها كلاعب مالي رئيسي في الاقتصاد العالمي. لكن الأكيد أن هذه المعضلة بحاجة إلى علاج فلا يمكن أن تتحول كل انتخابات إلى مشروع حرب أهلية في دول ذات ممارسة ديمقراطية راسخة، ولا يمكن للأرقام أن تتحول إلى وجهة نظر في انتخابات يكون فيها الفوز بصوت واحد. أزمة أميركا الأخيرة كشفت حجم أزمة تحول عالمية، لكن في التفاصيل الأميركية الكثير من التشويق خصوصاً وأن ترامب لا يزال يمسك بأوراق حاسمة في لعبة سياسية تقوم على نظام ثنائي الحزبية، فنفوذه داخل الحزب الجمهوري مشكلة سواء بقي فيه كمرجعية أساسية تؤثر على أي مرشح للحزب، أو نفذ تهديده بإنشاء حزب ثالث يجعل من الجمهوريين أقلية دائمة في المدى المنظور على الأقل.
Leave a Reply