كمال ذبيان
قبل عامين كانت معركة بلدة القصيّر فـي ريف حمص، التي شارك فـيها «حزب الله» الى جانب الجيش السوري، استراتيجية لجهة ضمان الحدود اللبنانية – السورية، ومنع تمدد الجماعات الإرهابية التكفـيرية بإتجاه لبنان وبقاعه الشمالي، وحماية البلدات التي يسكنها لبنانيون داخل الأراضي السورية ويبلغ عددهم بالآلاف، حيث تزامنت تلك المعركة مع أخرى خاضها الجيش السوري فـي منطقة تلكلخ وقلعة الحصن، حيث أمّن الحدود مع لبنان لجهة الشمال من جانب عكار التي تحوّلت الى قاعدة تجمّع وانطلاق للمسلحين منها الى الداخل السوري للقتال الى جانب ما يسمونه «الثوار»، وسقط مئات القتلى من اللبنانيين فـي هذه المعارك.
بعد طرد المسلحين عن تخوم لبنان وإقفال المعابر أمام المسلحين القادمين من سوريا أو المتجهين إليها، وارتاحت البلدات الحدودية فـي عكار كما فـي الهرمل والبقاع الشمالي، إلا أن تدفقهم نحو القلمون فـي سوريا وعرسال فـي لبنان عند سفح السلسلة الشرقية، فتح معركة جديدة العام الماضي، فـي مناطق يبرود وقارة ومعلولا ورنكوس، وهي بلدات ومدن سورية، تمّ تحريرها من المسلحين الذين انتشروا فـي جرود القلمون ومنهم مَن دخل الى جرود عرسال التي نزح إليها نحو مئة ألف سوري، تبيّن أن الجزء الأكبر منهم من القصيّر ومدن القلمون، حيث أقاموا فـي مخيمات داخل البلدة ذات الكثافة السنّيّة، والتي شكّلت فـي المرحلة الأولى حاضنة لهم، تحت عنوان دعم «الثورة السورية»، وأمّن «تيار المستقبل» غطاءً سياسياً لهم، ومساعدة «للمعارضة السورية» لإسقاط النظام، الذي كان الرهان من قبل قوى 14 آذار فـي لبنان وحلفاء لهم من دول عربية وما سمي «أصدقاء سوريا»، أنه لن يصمد كثيراً، لكنهم فشلوا فـي رهانهم وبقي الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة، فـي الحرب الكونية المفتوحة منذ خمس سنوات عليه وعلى سوريا وفـيها معارك كرّ وفرّ وربح وخسارة فـي الميدان.
إنتهت معارك القلمون فـي ربيع العام 2014، ليفتح المسلحون معركة الجرود التي تبلغ مساحتها حوالي ألف كلم مربع من الجانب السوري، وحوالي 400 كلم مربع من جهة عرسال والقاع ورأس بعلبك والفاكهة، وبات التكفـيريون فـي هذه الجرود يشكلون خطراً على البلدات البقاعية فـي قضاءي بعلبك – الهرمل لجهة بريتال ونحلة و يونين والنبي شيت ومدينة بعلبك، إضافة الى النبي عثمان واللبوة والفاكهة وراس بعلبك والقاع والهرمل، حيث كان المسلحون يمطرون هذه البلدات وغيرها بالقذائف المدفعية والصاروخية، ويرسلون السيارات المفخخة إليها والى الضاحية الجنوبية، وبات تمركزهم فـي الجرود السورية واللبنانية يشكل خطراً وجودياً، يمتد حتى منطقة الزبداني وسرغايا التي تمر منها الطريق الدولية بين دمشق وبيروت، كما بين دمشق وحمص والساحل السوري.
وإتّخذ قرار مشترك بين القيادتين السورية و«حزب الله»، بطرد المسلحين من الجرود مهما كانت كلفة المعركة العسكرية، وقد شجّع أكثر على خوضها، أن الجماعات الإرهابية التكفـيرية التي تنتمي الى تنظيم القاعدة، وتوزّعت بين «جبهة النصرة» بقيادة أبومحمد الجولاني، وتنظيم «داعش» بقيادة أبوبكر البغدادي، وهما اختلفا فـي «التكتيك» وليس فـي الإستراتيجية، بدأت هذه الجماعات بحرب كسر الحدود، حيث أعلن البغدادي إقامة «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» ولبنان من ضمنها، وبدأ الجولاني حرب السيطرة على الحدود لإسقاط النظام السوري وإقامة «الإمارة الإسلامية» التي سيكون لبنان جزءًا منها فـي مرحلة قادمة.
وهكذا تقرر إقفال الحدود اللبنانية – السورية، أمام الجماعات الإرهابية التكفـيرية التي قرّر «حزب الله» أن يبدأ حربه الإستباقية معها داخل سوريا، وهو ما ترك أطرافاً لبنانية تشن حملة عليه وتنتقده لتدخله فـي سوريا الى جانب النظام، وتدعوه الى العودة منها، لأنه يستدعي المسلحين الى لبنان، وهو فتح معركة السيارات المفخخة عليه، إلا أن الحزب ردّ على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أنه يخوض معركة الوجود ويستبق المسلحين فـي فرضها، وأن الهجوم الذي تعرضت له مراكز ومواقع الجيش فـي عرسال ومخفر الدرك فـي البلدة وقتل عسكريين وخطفهم، تؤكّد أن قتالهم فـي سوريا كان قراراً سليماً، ولو أن قوى 14 آذار لم تحتضن المسلحين فـي عرسال التي كانت تتذرع وتدعو الى فك الحصار عنها، وهي لم تكن كذلك، لما تمكّن المسلحون من احتلالها ومصادرة قرار أهلها، باعتراف وزير الداخلية نهاد المشنوق، من خلال تعاون فعاليات فـيها مع المسلحين لأسباب مادية، وأخرى عقائدية وسياسية.
فتحت معركة تحرير جرود عرسال من المسلحين وطردهم منها والمتصلة بجرود القلمون والتي تؤمن لهم المعابر والطرقات، وتمكّن الجيش من استعادة مراكزه ومواقعه فـي عرسال التي كلفته الحكومة مؤخرا السيطرة عليها ، وتحصين وجوده عند الجرود، وقد دفع ثمناً من دماء ضباطه وجنوده، لانه لم يحصل على القرار السياسي الجدي والحاسم من الحكومة، بإخراج المسلحين من عرسال، ولا الى تفكيك الشبكات الإرهابية منها، وكانت مخيمات النازحين فـيها تشكل مأوى لهم، لأن أغلبية العائلات فـيها على صلة قرابة مع مسلحين فـي الجرود، وكان من الصعب على الجيش أن يقوم بمعركة عسكرية حاسمة، لأن قوى 14 آذار، كانت تمنعه من ذلك، تحت ذريعة أنها لا تريد تعريض البلدة للخطر والدمار، وخرجت أصوات تعلن أن عرسال خطّ أحمر، وأن التعرض لها هو تعرض لأهل السنة مشيرة إلى ان حزب الله سيدخلها واستنفر العشائر لكن السيد حسن نصرالله نفى ذلك واكد ان مهمة الامن فـيها هي للجيش .
وهكذا حاول تيار المستقبل اعطاء المعركة طابعها المذهبي، وهو ما يعطّل على الجيش إنهاء بؤرة أمنية يحتلها إرهابيون، فكان لا بدّ من معركة الجرود التي تبدأ فـي القلمون لحماية البلدات البقاعية، والبداية كانت من جرود بريتال، وبدأ الجيش السوري ومقاتلو «حزب الله»، فـي التقدم وتسجيل إنتصارات من تلة الى أخرى، ومن وادٍ وسهل الى آخر، والمسلحون يفرون من أمام المقاومة والجيش السوري، وباتت المساحة من جرود بريتال الى نحلة ويونين كلها محررة وبمساحة 512كلم مربع، ونُفّذ الوعد الصادق الذي أعلنه السيد نصرالله، أنه مع ذوبان الثلج ستبدأ معركة تحرير الجرود وتطهيرها من المسلحين، وقد وفى به، وخاضت المقاومة والجيش السوري أعنف المعارك فـي قمم يبلغ ارتفاعها نحو 2600 متر فـي تلة موسى، وبدأت تتهاوى مواقع المسلحين فـي الجرود بشكل سريع، وهو ما لفت العدو الإسرائيلي الذي بدأ يدرس كيف تخوض المقاومة هذه المعركة وبدأ قادته يتطلعون الى المعارك التي توعدهم بها السيد نصرالله فـي داخل فلسطين المحتلة، فـي الجليل الأعلى، إضافة الى تحرير الجولان السوري المحتل والذي بدأ إعداد عناصر المقاومة له، لتقوم بمهامها التي بدأت قبل نحو عام.
فمعركة الجرود بالمفهوم العسكري والإستراتيجي، تعتبر من المعارك العسكرية التي تُدرس فـي المعاهد العسكرية، إذ يقاتل الجندي السوري والمقاوم فـي أرض جرداء مكشوفة، وفـي ظل مناخ بارد، وإن كان فـي أيام الربيع، إضافة الى السرعة التي حصلت فـيها المعركة التي بدأت من الجنوب والشرق فـي جبال القلمون لتصل الى الشمال والغرب عند جرود عرسال التي باتت تحت سيطرة المقاومين والجيش السوري بعد أن تمّ طرد المسلحين من التلال الإستراتيجية فـي جرود فليطا وتلة الثلاجة وتلة موسى وسهل شعبة القلعة وحرف وادي العرب ووادي الخيل وسهل الرهوة، وأهم التلال أو القمم هي جبل شعبة القلعة على علو 2339 متر ويشرف على وادي الخيل ومعبر الزمراني الذي منه يتواصل المسلحون مع سوريا، وأن السيطرة عليه وعلى غيره بالنيران يضع المسلحين فـي جرود عرسال بين فكي كماشة المقاومة والجيش اللبناني، الذي لم يوفر المسلحين وتجمعاتهم بالقصف لشل حركة تحركهم وقد نجح بعد أن حصّن مواقعه فـي وادي حميد، وسيطر على تلال استراتيجية منها تلة الحمراء، ولم يبقَ أمام المسلحين من «جبهة النصرة» بقيادة أميرهم أبومالك التلي الذي سقط مركز قيادته، كما المكان الذي كان فـيه المخطوفون العسكريون اللبنانيون، إلا أن يستسلم أو يدخل عرسال حيث سيكون بمواجهة الجيش اللبناني المكلف رسمياً بالتصدي للمسلحين، أو أن يعلن التلي مع مسلحيه مبايعتهم للبغدادي والإلتحاق بتنظيم «داعش» الذي يسيطر على جرود رأس بعلبك والفاكهة والقاع وبدات المعركة فـيها وتكبد المسلحون الذين حاولوا مباغتة المقاومة فكمنت لهم وكبدتهم خسائر بشرية بالعشرات ودمرت الياتهم واسلحتهم ، وان داعش يشكل الخطر الوجودي أيضاً لأن مشروعه إسقاط الحدود وإقامة «الدولة الإسلامية» والوصول الى الشاطئ اللبناني كمنفذ على البحر للدولة المزعومة، و لن يبقى فـي هذه الجرود.
وتعتبر معركة الجرود من القلمون الى عرسال ورأس بعلبك، هي لحماية الحدود بين لبنان وسوريا، وهي الوحيدة التي بقيت مفتوحة بين البلدين ولم يسيطر عليها المسلحون كما فعلوا مع تركيا والعراق والأردن، ولأن هذه الطريق هي طريق المقاومة والعمق الإستراتيجي لها، كانت المعركة فـي القصيّر والقلمون وجرودها، ومحاصرة الزبداني، وهذا هو العنوان الحقيقي للمعركة على سوريا، وهي موقهعا فـي مشروع المقاومة، أو هلال المقاومة الممتد من إيران الى العراق فسوريا وفلسطين، وتصاعدت المحاولة بعد الإحتلال الأميركي للعراق فـي العام 2003، ثم فـي القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي فـي2 أيلول 2004 والذي طالب بنزع سلاح المقاومة وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان اغتيال الرئيس رفـيق الحريري لتحقيق هذا الهدف، فانسحب الجيش السوري، وبقيت المقاومة التي فشل العدوان الإسرائيلي فـي صيف 2006 بضربها وتدمير سلاحها، فقويت وباتت تملك 130 ألف صاروخ باعتراف العدو الإسرائيلي، فكانت الحرب على سوريا التي بدأت قبل خمس سنوات، لضرب مشروع المقاومة التي تقاتل فـي سوريا لحمايته ، وتحرر جرود القلمون وعرسال، لأنها معركة الوجود التي تساوي الحرب مع العدو الإسرائيلي.
Leave a Reply