كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عادةً، تبدأ في لبنان معركة التحضير لانتخابات رئاسة الجمهورية، مع بداية العام الرابع من ولاية رئيس الجمهورية وإن كان القرار فيها ينتظر ربع الساعة الأخير فيأتي وفق ما تمليه الظروف السياسية.
ففي العام الرابع من العهد يبدأ الرئيس عادةً بلملمة أوراقه استعداداً لمغادرة قصر بعبدا، هذا إذا لم يكن صاحب طموح للتجديد أو التمديد، وهو ما فكّر به غالبية رؤساء الجمهورية في لبنان، باستثناء مَن أتوا من «الشهابية السياسية» كمؤسسها الرئيس اللواء فؤاد شهاب، والرئيسين شارل حلو والياس سركيس. أما الآخرون فكان التجديد هدفهم، وهو ما فعله أول رئيس بعد الاستقلال بشارة الخوري فجدد ولايته، بينما لم يحالف الحظ كميل شمعون الذي اندلعت ثورة بوجهه، وهو ما سعى إليه أيضاً الرئيس أمين الجميّل، وقد حصل فعلاً بعد اتفاق الطائف بالتمديد للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، أما الرئيس السابق ميشال سليمان ففشل بتأمين التمديد بعد سقوط رهاناته السياسية، ليحل مكانه الفراغ حتى وصول العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
الموارنة
تعتبر رئاسة الجمهورية في لبنان من حصة الموارنة، وذلك منذ نشأة «لبنان الكبير» الذي ساهم في تأسيسه الفرنسيون لحماية الطائفة التي تدين بالولاء لـ«الأم الحنون» وللحفاظ على المسيحيين عموماً في الشرق.
ومنذ عشرينيات القرن الماضي، حتى الاستقلال كانت البطريركية المارونية تقيم قداساً سنوياً على «اسم فرنسا» للتأكيد على انتماء لبنان للدولة الفرنسية، وهو تقليد تخلى عنه الحزب الدستوري برئاسة بشارة الخوري، بعد إعلان صيغة الميثاق الوطني مع رياض الصلح كممثل للطائفة السّنّية ذات الخط العروبي، فتم الاتفاق على أن لبنان عربيّ الهوى، ولا ينتمي إلى الغرب. وحصل ذلك بعد تحالف الخوري مع الإنكليز الذين تقاسموا المشرق العربي مع الفرنسيين وفق معاهدة «سايكس–بيكو» عام 1916، وامتدّ نفوذهم إلى لبنان، خلال الحرب العالمية الثانية، ودعموا الفريق الداعي إلى إنهاء الانتداب الفرنسي على لبنان، وتدخل القنصل البريطاني أدوارد سبيرز لصالح دعاة الاستقلال عن فرنسا، وأوصلوا الخوري إلى رئاسة الجمهورية على حساب إميل إده الموالي لفرنسا، بعد أن سجن الفرنسيون الخوري وبعض أركان الدولة في راشيا، وأعادوا إدّه إلى القصر الجمهوري، الذي أخرجه منه اللبنانيون بصدامات وتظاهرات ضد الفرنسيين، فخضعت دولة الاستعمار للإرادة الشعبية اللبنانية، وأعلنت انتهاء انتدابها للبنان الذي خرجت منه في نهاية كانون الأول 1946 بجلاء قواتها العسكرية عنه.
صناعة الرئيس
منذ الاستقلال حتى يومنا هذا، بات الجميع يدرك أن رئيس الجمهورية لا يُصنع في لبنان، بل بدوائر القرار الخارجية بحسب موازين القوى الدولية على الساحة اللبنانية، بحيث لم تجرِ انتخابات رئاسية قط، إلا وكان التدخل الخارجي طاغياً عليه.
هذا ما حصل في كل المراحل الرئاسية، منذ الاستقلال حتى انتخاب العماد عون، فكان القرار فرنسياً أو بريطانياً أو أميركياً أو مصرياً أو سورياً أو سعودياً أو إسرائيلياً أو حتى إيرانياً، بحيث لم ينتخب رئيس للجمهورية إلا بقرار وتوجّه خارجي، وقد كان لسوريا أثناء وجودها العسكري والأمني والسياسي في لبنان –لاسيما بعد اتفاق الطائف في العام 1990– القول الفصل في تسمية رئيس الجمهورية، من الرئيس رينيه معوّض إلى الرئيس الياس الهراوي ثمّ إميل لحود. وبعد خروج السوريين من لبنان في العام 2005، أصبح «حزب الله» وحلفاؤه شركاء أساسيين في القرار وهو ما ظهر في انتخاب العماد عون، بعد شغور في رئاسة الجمهورية دام سنتين ونصف العام، إذ أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ترشيح العماد عون و«نقطة على السطر»، فحصلت العملية كما أراد، وقامت «التسوية الرئاسية» التي كان فيها الرئيس سعد الحريري شريكاً مع «التيار الوطني الحر»، وقد قام بإبلاغ المسؤولين في السعودية وفرنسا وأميركا، بأن لا خيار له سوى انتخاب عون للخروج من الفراغ الرئاسي وانتظام عمل المؤسسات الدستورية، وعودته هو إلى رئاسة الحكومة.
خلافة عون
ومنذ وصول العماد عون إلى سدة الرئاسة في 31 تشرين الأول 2016، بدأ الحديث عمن سيخلف الرئيس الثمانيني، وسط شائعات بأن صحته قد لا تساعده على إكمال ولايته أصلاً، وأنّ مَن سيخلفه هو صهره الوزير جبران باسيل، الذي راح يتحرك كوريث سياسي للحالة العونية، فترأس «التيار الوطني الحر» دون انتخاب، وهو ما أثار غضباً وتمرّداً داخل مؤسسي التيار ومناضليه، فخرج منه العديد من القيادات والأفراد، وبعضهم لجأ إلى إنشاء تنظيم مرادف، دون أن يكترث العماد عون لاحتجاجات هؤلاء، بل كان يصرّ عند تشكيل كل حكومة أن يكون باسيل ممثلاً فيها، حتى بات مهندساً للعلاقات السياسية ومسار العهد، ولُقّب بـ«الرئيس الظل».
باسيل يعمل للرئاسة
مع تسليمه زمام القيادة، بدأ باسيل يفكّر ويتحرك على أنه المرشح الأقوى لخلافة عون، فلجأ إلى فتح معركة الرئاسة مبكراً، تحت شعار إبقاء العونيين في القصر الجمهوري، باعتبار أن «الحالة العونية» هي الأكثر تمثيلاً للمسيحيين ويجب أن تحتفظ برئاسة الجمهورية وفق معادلة «الأقوى في طائفته»، مثل الرئيس نبيه برّي في رئاسة مجلس النواب، و«الحريرية السياسية» في رئاسة الحكومة.
خطة باسيل قامت على أن الانتخابات النيابية ستعطيه كتلة نيابية وازنة داخل الساحة المسيحية، غير أن الوضع الشعبي على أرض الواقع بدأ يتغيّر مع الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الأول الماضي، كما أن الظروف الداخلية بدأت تتبدّل لغير صالح الطبقة السياسية الحاكمة، «والتيار الوطني الحر» جزء منها، لاسيما بعد فشله في إجراء الإصلاح والتغيير الموعدين، لأن منطق التسويات فرض نفسه في بلد الـ«لا غالب ولا مغلوب»، المحكوم بلعبة تقاسم المغانم والمصالح الطائفية.
صراع باسيل–فرنجية
أمام طموح باسيل، يظهر رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، كمنافس أول على كرسي الرئاسة، إذ أنه المرشّح الثاني على لائحة «حزب الله» من بين الحلفاء، وكان اسمه مطروحاً بقوة قبل انتخاب عون، وقد أيّده في الوصول إلى الرئاسة كل من الرئيسين برّي والحريري ووليد جنبلاط مع قوى سياسية أخرى، كما لاقى تأييداً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكن «حزب الله» بقي على وعده بدعم عون حتى النهاية، معتبراً فرنجية مرشّحه الرئاسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ووفق قاعدة «ربع الساعة الأخير» التي تتغير ظروفها بحسب التطورات التي قد تنشأ لبنانياً وعربياً ودولياً، لا يمكن لأحد أن يجزم من سيكون الرئيس القادم، حتى «حزب الله» نفسه قد يضطر إلى تعديل موقفه رغم أن فرنجية مرشح مفضل لـ«حزب الله»، الذي يحاول باسيل استمالته، ويعقد لقاءات دورية مع أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي يقدر الغطاء المسيحي الواسع الذي أمنه «التيار الوطني الحر» للمقاومة، لاسيما أثناء العدوان الإسرائيلي صيف 2006، والذي كان اختباراً قاسياً للتفاهم بين الطرفين الذي كان قد وُقّع قبل ستة أشهر في كنيسة مار مخايل.
فرنجية المتوجس من طبيعة علاقة باسيل بـ«حزب الله»، لمّح في مؤتمره الصحافي الأخير، إلى أن الحزب «يدلّـل» باسيل ويقدّمه على باقي الحلفاء، مثلما فعل مع العماد عون. وقد أبدى رئيس «تيار المردة» ارتيابه من هذا السلوك، قبل أن تلقى تطمينات من «حزب الله» بأن لا يشغل باله في ذلك لأنه لازال من المبكر الحديث عن رئاسة الجمهورية قبل عامين ونصف من نهاية عون، خاصة وأن انتخابات الرئاسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف التي سترافقها.
حصل فرنجية على تطمين من «حزب الله» إلا أنه يرى أن باسيل قرّر الهجوم على كل مَن هو مرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، وقد وجه انتقادات لقائد الجيش العماد جوزف عون الذي ارتفعت أسهمه شعبياً وزار واشنطن أكثر من مرة في إطار التعاون العسكري بين الجيشين اللبناني والأميركي. وقد ظهر الخلاف بين قائد الجيش ورئيس «التيار الوطني الحر» في أكثر من محطة، من خلال ممارسات وزراء الدفاع الذين يوالون التيار البرتقالي، حيث يعتبر مركز قائد الجيش مرشحاً دائماً لرئاسة الجمهورية كما حاكم مصرف لبنان، كموظفين موارنة في الفئة الأولى، وهذا ما حصل منذ سنوات، مع وصول أربعة من قادة الجيش لرئاسة الجمهورية (فؤاد شهاب وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون)، ومن مصرف لبنان، إلياس سركيس، في حين أن الحاكم الحالي رياض سلامة، ورغم أنه مرشح محتمل بدعم أميركي، إلا أن الأزمة المالية والمصرفية التي تعصف بلبنان قد نسفت حظوظه وأخرجته من المعركة مبكراً.
عملياً، المعركة ستظل مفتوحة بين باسيل وفرنجية، كأقوى مرشحين لخلافة عون، غير أن فتح ملف «الفيول المغشوش» وتبادل الاتهامات بالفساد بين المرشحين الرئاسيين، قد أحرج «حزب الله» الذي رفع راية الحرب ضد الفساد.
Leave a Reply