لأنّ الإنسانَ ميّالٌ بطبعهِ إلى اكتشافِ الظواهر المحيطةِ به –في الغالب– أجدهُ كما أجدُ نفسي، كائناً يدفعُهُ الفضولُ إلى تقصّي تفاصيلِها، والغور في تفسيرِ معانيها، ليقوده ذلك إلى القبضِ على جوهر جدواها، لكن هناك أموراً ومشاهد لا نذهب إليها لاهثين، أو نركض وراءَها باحثين، وإنّما هي تنتصبُ أمامنا مثل عارضة وعلى حين غرّة، أو نصادفها خلالَ تجوالِنا سواءً في المناسبات العامّةِ أوالخاصّة، أو حتّى خلال أوقات ارتيادنا لأماكن التسوّق التي تعرضُ السلعَ المادّيّة، أو توجُّهنا للمحلّات التي تعرضُ خدمةً ما، من الخدمات التي تمسّ حاجاتنا المتكرِّرة أو اليوميّة. فنضطرّ إلى الإستماع لهموم أصحاب تلك الخدمات، والتي تصل حدَّ الشكوى من تلك الهموم التي يعانونها.
وفعلاً أثناءَ تجوالي، وبنموذجٍ من المحلّات الأخيرة، صادفتني إحداها، والتي وصلتْ إلى درجةِ العتبِ بامتياز، حصل ذلك عندما قادتني قدماي لأحد محلّات بيع وتصليح أجهزةِ الكومبيوتر، بغيةَ إصلاح عطلٍ طرأ على جهاز الكومبيوتر الخاص بي، لم يُثِرني ترحيبُ وتهليل الرجل، صاحب المحل، بي كزبونة، لكنّ الذي أثارني هو الإستغرابُ الماثل خلالهما، فثمّة نظرة أسى بعيدة في عينيه، كانت تُخفي وراءَها يأساً وفقدانَ أملٍ مطمورَيْن بداخلِها يفوقان التصوّر، إبتعدَ قليلاً إلى الوراء مُفسِحاً المجالَ لي كي أضعَ حِملي -جهاز الكومبيوتر- على الطاولة، ونظراتُ الإستغراب مازالت متلاحقة.
دفعني الفضولُ لاستنطاقِه، كي أقعَ على حقيقةِ الأمر، فأستشِفُّ مايعانيه، قال لي بانكِسار: «أتعرفين ياسيّدتي منذ متى لم يأتِ أحدٌ من أبناءِ الجالية إلى محلّي هذا، الذين كان معوِّلي عليهم، بحيث كنتُ أتمنّى أن أعتبرهم من متصدِّري الزبائن؟»، قالها بأدبٍ ينمُّ عن حسنِ تنشِئتهِ.. سحبَ كرسيّاً لأجلسَ عليه، حتّى إذا استقرّيْتُ عليه، كان قد اتّكأ على أحد أعمدةِ المحل، فبادرَني بالسؤال، إن كان لديّ مايكفي من الوقت لأنصتَ إلى تفاصيلِ سبب تعاستِه، وبعد أن أومأتُ إليهِ بالإيجاب، قال: «منذُ سنة 1999 وأنا أمارسُ عملي بهذهِ المهنة، أشاركُ الجاليةَ الكريمةَ أفراحَها وأتراحَها، أساهمُ بجميعِ الأعمال الخيِّرة سواءً أكانت على مستوى الجماعات أو الأفراد، وأدعمُ كلَّ من يترشّح من أبنائها لمنصِبٍ مهم، وألبّي أيّةَ دعوة توجّه لي من أيِّ طرفٍ منها، ولستُ أغالي إذا أفصحتُ بأنني في معظمِ الأوقات أقدِّم خدماتٍ مجّانيّة للمحتاجين من أبناءِ الجالية.. أبناء جِلدتي، وأدعو اللهَ سبحانه أن يمدَّ في عمري لأساعدَ أيَّ محتاج»، قال كلَّ ذلك ولم يتفوّه بكلمةٍ تُفصِح عن سبب المعاناة التي يُقاسيها، فقاطعتُهُ متسائلةً: «هل لي أن أعرفَ سبب التشاؤم المرسوم على وجهِك؟» فردَّ والأسى يطفحُ في عينيه: «هل جزاءُ الإحسان إلّا الإحسان؟ أليس من المُفتَرض أن يعاملَني أبناءُ الجالية بالمثِل؟ إنهم يلهثون وراءَ الغير، ولا جدال في ذلك، لكنّ ابن جاليتِهم يقدّم خدماتِه إليهم بالأفضل، فلماذا يتركونه ليتوجّهوا إلى الغير؟ ألسنا غير قادِرين على إثباتِ الجدارة في نفسِ الخدمة؟ فأنتِ تريْن نفس الأجهزة، وعين الماركات والنوعيّات، وشبه التسهيلات،وبحكم قانون التنافس، فإنّ أسعاري أقلّ، وأنا أعلن ذلك باستمرار، إنّني فقط أتألّم ليس شخصيّاً، ولكن لفقدانِنا جمعِيّاً، روحَ الإلتحام مع بعضِنا كجالية، على الأقل من الناحية الإقتصاديّة، إنّ المبدأ القاضي بالمعاملةِ بالمِثِل، يقتضي أن أعاملَ من قبلِ أبناءِ الجالية مثلما أعاملهم، فأنا حين أقفُ إلى جانبِهم فأنا آملُ منهم أن يقفوا إلى جانبي أيضاً، لا أقصد الوقوف إلى جانبي ماديّاً، لأنّني والحمد لله مكتفياً بفضلِه، ولكنّني أقصد هنا مدّ جسور التعاون بيننا، كجالية، والإندماج الكلّي بيننا على جميعِ الأصعِدة، حتّى نسندُ بعضَنا بعضاً، كلٌّ في مجالِه، لنكونَ قادرينَ على مساعدةِ من يحتاج إلى المساعَدة، بذلك نظهر إلى العالَم أقوياء، متكافئين ومتعاضدين، تفخر بنا الأجيالُ القادمة، فتحذو حذوَنا، أليس في الإتّحادِ قوّة؟»..
لا أستطيعُ التعليق أمام سيلِ عبارات هذا الإنسانِ العامل، إلّا أن أتركهُ لضميرِ القارئ، متسائلةً: هل للإحسان معضِلة بين أبناءِ الجالية؟
Leave a Reply