نبيل هيثم – «صدى الوطن»
ثمة سيناريوهان متعارضان إلى حد التناقض في حيثيات معركة الموصل وتداعياتها.
الى الشرق السوري
السيناريو الأول، تفرضه المعطيات الميدانية، وملابسات اطلاق المعركة ذاتها، ناهيك عن توقيتها، فالمعركة المعلنة منذ شهور والتي تأجلت انطلاقتها بشكل غير مفهوم، بصرف النظر عن الاعتبارات الداخلية للقوى المشاركة فيه، منحت تنظيم «داعش» هامش مناورة كبيراً للتكيف مع المتغيرات، وجعلته قادراً، من الناحية العملية، إلى التعامل مع مدينة الموصل باعتبارها منطقة ساقطة عسكرياً، وبالتالي سحب عناصره باتجاه الشرق السوري.
هذا السيناريو يثير الكثير من التساؤلات حول احتمال وجود هدف خفي وراء إتاحة الفرصة لـ«داعش» لاعتماد اكثر من خطة في المقاربة الميدانية لمعركة الموصل. هذا الهدف الخفي اثارته أكثر من جهة، بعبارات مختلفة، وكان أوضحها ما قاله الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطبة عاشوراء، حين حذر من أن الهدف الفعلي من معركة الموصل هو فتح الطريق للتكفيريين من محافظة نينوى باتجاه الرقة ودير الزور، وبالتالي تكديس الإرهابيين في شرق سوريا.
تحذيرات السيد نصرالله تنطوي على الكثير من الواقعية، فالمواجهة الفعلية في الشرق الأوسط لم تعد في العراق، برغم تمدد تنظيم «داعش» في بلاد الرافدين لسنوات، وانما هي فعلياً في سوريا، ولا سيما في الرقة، العاصمة الثانية لـ«خلافة» البغدادي، طالما أن أمر حلب قد حسم لصالح الروس.
وإذا كان الانطباع العام عن توقيت فتح المعركة ضد «داعش –العراق» يوحي بأن ثمة قواعد اشتباك جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، عنوانها العريض «الموصل في مقابل حلب»، فإنّ الواقع الميداني يشي بعكس ذلك. فإذا ما سُمح لـ«دواعش» العراق بتأمين طريق الانسحاب الى الرقة، تكون الولايات المتحدة قد أصابت عصفورين بحجر واحد، وذلك من خلال تقديم إنجاز نوعي في الحرب على الارهاب على الجبهة العراقية عبر طرد التنظيم من الموصل من جهة، ومن جهة ثانية يمكنها استخدام الأدوات التكفيرية نفسها في تصفية الحسابات مع روسيا واستنزافها على الساحة السورية عبر «أفغنتها».
ولعل ما حدث قبيل إعلان الساعة الصفر لمعركة الموصل، ومجريات اليومين الأولين من العمليات العسكرية يشي بالكثير.
فعشية بدء معركة الموصل كانت المساجد في المدينة الواقعة تحت سيطرة «داعش» منذ الثمانية والعشرين شهراً تبث نداءات إلى إرهابيي البغدادي، وبشكل خاص المصابين منهم، وعائلاتهم الى الانسحاب، أقله من الخطوط الأمامية للمواجهة، بينما كان ناشطون في قلب المدينة ينقلون سراً معلومات عن وجود قوافل تنقل أعداداً من الـ«دواعش» من الموصل باتجاه الحدود العراقية السورية.
وبشكل صريح، كشف رئيس الأركان الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف عن المخاوف الروسية في هذا الإطار، حين قال «نركز اهتمامنا على محاولات من الممكن أن يبذلها المسلحون للخروج من الموصل أو مغادرة المدينة إلى سوريا بتسهيلات من قوات التحالف». هذا التصريح أعقب تسريبات من مصادر عسكرية وديبلوماسية روسية مفادها أن الاستخبارات الأميركية والسعودية اتفقت على توفير ممر آمن لخروج المسلحين من مدينة الموصل العراقية قبل أن تبدأ قوات التحالف عملية تحريرها، وأنه يُفترض، بذلك أن يتم نقل الآلاف من المسلحين من الموصل إلى شرق سوريا ليهاجموا القوات السورية المدافعة عن مدينة دير الزور، ويحاولوا استعادة سيطرتهم على تدمر.
هكذا فإن ترك الجبهة الغربية من الموصل مفتوحة، ربما يعني أن القوات العراقية التي تعمل برعاية أميركية واستشارة إيرانية، قد اختارت مجدداً ترك مخرج لـ«داعش»، كما حدث في كل معارك المدن السابقة، في محاولة لدفع التنظيم الارهابي إلى الخروج من الموصل مثلما حصل بعد معركة الفلوجة والرمادي… ما يعني أن معركة الموصل قد تدفع «داعش» إلى معركة مقبلة ومؤجلة.
تمهيد للصدامات الداخلية
وأمّا السيناريو الثاني لمعركة الموصل، فهو أن الأمر لا يعدو كونه محاولة أخيرة من باراك أوباما لتقديم هدية انتخابية إلى «مرشحة العهد» للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، على مسافة أقل من ثلاثة أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، لا سيما في ظل الهجمات النارية التي شنها المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والتي اتهم فيها المرشحة الديمقراطية بـ«خلق داعش»، حين كانت وزيرة للخارجية في الولاية الرئاسية الأولى لباراك أوباما، وبعد التسريبات الخطيرة التي نشرها موقع «ويكيليكس» حول ضلوع هيلاري كلينتون في دعم المجموعات الارهابية.
واذا ما اقتصرت مفاعيل إطلاق معركة الموصل على الدعم الانتخابي لكلينتون، فإن ذلك سيعني من الناحية العملية، أن العمليات العسكرية الجارية حالياً ستكون مستنقعاً لن يتورط فيه الجنود الأميركيون في وحول نينوى، طالما أنهم قابعون في الخطوط الخلفية، كما صرّح بذلك المسؤولون العسكريون الأميركيون، وانما المستهدف في هذه الحالة ستكون القوات الأمنية العراقية والحشد الشعبي وربما البشمركة والأتراك، وذلك لدفع الأمور في الموصل إلى فوضى عسكرية-سياسية تستطيع من خلالها الولايات المتحدة استخدام كل القوى المتناقضة، بغية خلق واقع جديد في غربي العراق.
ولعل ما يؤكد هذا السيناريو هو التصريحات الحذرة الصادرة من القيادة العسكرية الروسية، وآخرها ما صدر عن هيئة الأركان العامة في الجيش الروسي بشأن سير العمليات العسكرية في الموصل، ومفادها أن المعركة الفعلية لم تبدأ بعد، وأن كل تلك الدعاية الحربية الأميركية خلال الأيام الماضية، ليست سوى عمليات قصف أولي، وأن اقتحام الموصل لن يكون نزهة، في ظل الحديث عن شبكة أنفاق أقامها «داعش» طوال الأشهر الثمانية والعشرين لاحتلال ثاني أكبر مدن العراق، وهو ما جعل الرئيس الأميركي باراك اوباما يخفف من سقف التصريحات الاعلامية بشأن المعركة، ليقول أنها ستشهد عمليات كر وفر.
السعودية والوتر الطائفي
وما يؤكد ذلك أن معركة الموصل فاقمت الاصطفاف الطائفي المتأجج أصلاً في الشرق الاوسط، وذلك بعد وقوف السعودية في صف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة حكومة حيدر العبادي، وتحذير وزير خارجيتها عادل الجبير من «كوارث» طائفية في حال مشاركة قوات «الحشد الشعبي» في معارك استعادة المدينة العراقية ذات الغالبية السنية، لا بل واستعادة تركيا الإرث العثماني للموصل، وتلميح أردوغان نفسه إلى ان معركة الموصل ينبغي أن تقود إلى تعديل اتفاقية لوزان التي رسمت حدود تركيا الحديثة، بعد الحرب العالمية الأولى.
ولا شك في أن الخطة الأميركية للموصل، وغيرها، ما زالت تقوم على أسس ثابتة في السياسات المعتمدة تجاه القوى الارهابية، وهي عدم المس بالقدرات القتالية الفعلية لـ«داعش»، وهذا ما نشهده اليوم بالفعل في الموصل التي يجري نقل «داعش» منها إلى شرق سوريا من أجل إطالة أمد الصراع ضد الجيش السوري وحلفائه، وبطبيعة الحال الروس، والأهم منع عودة الموصل إلى حضن الدولة العراقية المركزية، وذلك عبر استحضار العامل المذهبي، وذلك لتحويلها الى عاصمة للاقليم السني الذي يجري التخطيط له منذ سقوط نينوى في ايدي التكفيريين، وما رافق ذلك من مؤتمرات ولقاءات واجتماعات عقدها سياسيون سنّة في الولايات المتحدة من أجل هذا الغرض.
وعلى بعد أيام من الانتخابات الرئاسية الأميركية يرجح أن تدفع الولايات المتحدة بمعركة الموصل إلى نقطة الذورة، وهو أمر طبيعي، طالما أن المعركة بحد ذاتها هي هدية رئاسية من أوباما إلى كلينتون التي سخرت من قول دونالد ترامب لها بأن معركة الموصل محاولة من إدارة أوباما لتعويمها انتخابياً.
قبل أن يعود المسار الطبيعي الذي حددته واشنطن للعمليات العسكرية، حال اتضاح هوية سيد البيت الأبيض الجديد.
Leave a Reply