هل من المعقول، يا سادة يا كرام، ما حدث في الأسبوع الماضي في أميركا؟ لقد جرت الانتخابات الرئاسية في بلد واسع شاسع، متعدد الجنسيات والأعراق، يمارس مواطنوه عادات مختلفة، ويعتنقون أديانا مختلفة، وينتمون إلى انتماءات شتى. ومع ذلك فقد تمت الانتخابات في يوم واحد، في كل الولايات، بدون حوادث أو خروقات أمنية.. بدون إطلاق رصاصة واحدة، بدون مظاهرات وخطابات رنانة أو تهم متبادلة، ودون أن تقفل المدن والجامعات وتتعطل لغة الكلام والحوار بين الجميع.
لم تقفل السوبرماركات ولم تغلق الأسواق، لم يختف حليب الأطفال، وبقي الخبز والدواء متوفراً. لم يتم إعلان الخطر في البر والبحر والجوً!!
والأغرب من ذلك كله، لقد تم إعلان الرئيس الفائز، بدون إطلاق مدافع الهاون، والتطبيل والتزمير، ولم يتم استنفار معظم «الشعارير» وأنصاف … الحداثيين والمطربين المخنثين، لتأليف القصائد والأغاني وتلحينها لتزيد الرئيس عشقاً ووسامة.
معقول يا ناس؟! هكذا بكل بساطة تتم الانتخابات بصورة ديمقراطية حيث تنصاع الأقلية لرغبة الأكثرية، بدون أن تلجأ الأقلية إلى تخوين الأكثرية وإطلاق التهم لها من كل الماركات والعلامات، والدعوة للجلوس على حصيرة المباحثات للنيل من الأكثرية واتهامها بالتزوير والخداع للشعب الأميركي الذي صوّت وأنتخب ورجع إلى بيته سالماً بدون حواجز طائرة أو سائرة اعترضته وسألته: من انتخبت؟
لقد شعرت بالذهول، بعد إعلان إسم الرئيس المنتخب في نفس اليوم، فلم تأخذ القصة أياماً ولياليَ لعد الأصوات وإعلان نسبة الفوز 99 بالمئة. تمت الانتخابات على طول الولايات الأميركية وعرضها من المحيط إلى المحيط هاتفة بالروح والدم. لقد شعرت بالحسد مثل الكثيرين وأنا أرى المرشح الخاسر في الانتخابات يوجه التهنئة للمرشح الفائز، بدون حقد أو زعل أو تقوم الحرب العالمية الأميركية.
معقول هكذا بكل بساطة، قدم المرشح المهزوم تهانيه وتمنياته بالنجاح للرئيس الفائز، معلناً مؤازرته واستعداده ليكون مواطناً عادياً يعمل بفخر واعتزاز لخدمة وطنه وشعبه تحت رئاسة وقيادة رئيسه الجديد.
بالمقابل لم تخرج الجماهير الغاضبة من المعارضة للانتخابات تصرخ بالويل والثبور لأن مرشحها خسر وسقط بالتصويت. فوق ذلك كله، في اليوم التالي، لم أر أو أشاهد صور الرئيس وعقيلته التي سوف تكون السيدة الأميركية الأولى، منصوبة على الحيطان والجدران والأسواق. لم أسمع قصائد المدح والنفخ و«القراديات» في مدح الرئيس وتعداد مناقبه. ولم تصدر الصحف تعمل صفحات الإعلان للمباركة والتهنئة مدفوعة من فلان أو علان، أو من الشركات التجارية والتجار الحرامية.
لم يحدث شيء من هذا، مضت الحياة بوتيرتها المعتادة، ولم أتمكن أنا من التكيف بعد مع ما يدور حولي هنا في ديربورن، كعربية مهاجرة من بلد من العالم الثالث، ولكن أهله يدعون أنهم أصل الحضارة والرقي ومصدر الحروف التي علمت الأمم كلها الأبجدية، عدد سكانه لا يتجاوز الثلاثة ملايين ولم يتمكنوا أو يستطيعوا انتخاب رئيس لهم إلا بعد حوالي ستة أشهر من مشاحنات ومضاربات ولم تتم العملية إلا بعد رحلة لقبض الثمن من دولة أخرى!!..
لقد تأكد لي، أنني كنت ممن (ضيع في الأوهام عمره) انتظاراً لرؤية عدوى فيروس الديمقراطية والوطنية تنتشر في بلاد العرب أوطاني، حيث لا جدوى ولا علاج للتخلص من صور رؤوساء جمهورياتنا الراسخين في القدم منذ عاد وثمود، إلا بالتمني والدعاء لينتشر هذا الوباء، وباء الانتخابات بحرية وديمقراطية إذ لعل وعسى تهب رياح التغيير كما هبت على الولايات الأميركية حاملة معها تغييراً تاريخياً وتجديداً في دماء الحياة الاجتماعية والسياسية.
تمنيت لو يهب على أوطاننا هناك، هواء يضخ أوكسيجناً ينقي الأجواء من ثاني أكسيد الكربون الذي يصيب الناس بالخمول والكسل وشل قدرتهم على التفكير والتغيير. تمنيت لو ينتهي الضجيج والصراخ هناك في الإذاعات والتلفزيونات وتزول صور رؤساء الجمهورية الذين أصبحوا من فئة الملوك الدهريين، إذ عندها لعل وعسى يستطيع معذبو تلك الأوطان أن يقولوا مثلي، هل هذا معقول؟ انتخابات وديمقراطية وتغيير رؤساء وحكومات بكل هذه البساطة. معقول!!..
Leave a Reply