كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، لا تزال التحقيقات القضائية والأمنية قاصرة عن التوصل إلى معرفة ما الذي جرى في العنبر رقم 12، والجهات المسؤولة عن الانفجار الهائل الذي ضرب العاصمة اللبنانية مساء الرابع من آب (أغسطس) 2020، متسبباً بهزّة أرضية تفوق قوتها 4.5 درجات على مقياس ريختر، مما أدى إلى دمار واسع طال الجزء الشرقي من بيروت، مخلفاً نحو 216 قتيلاً وحوالي ستة آلاف جريح، فضلاً عن تهجير عشرات آلاف المواطنين نتيجة الأضرار الفادحة التي لحقت بحوالي 85 ألف وحدة سكنية وآلاف المؤسسات والمتاجر، عدا عن مئات المنازل ذات الطابع التراثي التي تميز بيروت كإحدى أكبر المدن التراثية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وفق منظمة «الأونيسكو».
هذه الكارثة الإنسانية والعمرانية والاقتصادية والثقافية–التراثية، لم يشهدها لبنان في تاريخه الحديث، سوى في الحرب الأهلية والزلزال المدمر الذي ضرب بلاد الأرز عام 1956 متسبباً بخسائر مادية وبشرية في بيروت والعديد من المناطق الأخرى من جزين إلى الشوف وصولاً إلى البقاع.
بل ذهبت بعض التقارير إلى تشبيه انفجار مرفأ بيروت بالقنبلتين النوويتين اللتين دمرتا مدينتي ناكازاكي وهيروشيما في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة بحجم القوة التدميرية للانفجار الذي بلا شك يعتبر الأسوأ في تاريخ البحر الأبيض المتوسط.
ومرفأ بيروت الذي لطالما اعتُبر نقطة الوصل والتواصل بين الشرق والغرب بسبب موقعه الفريد بين ثلاث قارات، هي أوروبا وأفريقيا وآسيا، يبدو أنه لم يعد بالأهمية الاستراتيجية نفسها التي اكتسبها بعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي ومقاطعة ميناء حيفا الفلسطيني، لاسيما مع توجه بعض دول الخليج إلى التطبيع والتعاون مع الكيان الصهيوني، وهو ما بدأ ينعكس بوضوح على لبنان من خلال أزمته الاقتصادية الخانقة، في ظل حصار خليجي غير معلن.
التحقيق القضائي
بعد كارثة مرفأ بيروت مباشرة، وقبل إزالة الركام وأشلاء الجثث المتناثرة على بعد عدة كيلومترات من مركز الانفجار، اجتمعت حكومة الرئيس حسان دياب –قبل استقالتها– بحضور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي أعلن عن إحالة الملف إلى القضاء، مسمياً القاضي فادي صوان كمحقق عدلي في القضية، وسط وعود حكومية بإعلان أسباب التفجير ومَن يقف وراءه للرأي العام في غضون أيام معدودة، ولكن ذلك لم يحصل بعد، رغم مرور عام كامل تقريباً على الانفجار الغامض.
تشعّبت وتوسّعت التحاليل والسيناريوهات والاتهامات السياسية وغير السياسية، فركز البعض في البداية على أن المستهدف هي صواريخ للمقاومة مخزنة في العنبر رقم 12، وأن الطيران الإسرائيلي قصفها من الجو. وبعدما تبين أن العنبر كان يحتوي على أطنان من مادة «نيترات الأمونيوم»، لم يتوان البعض عن اتهام «حزب الله» بتخزين هذه المادة الخطيرة لشحنها إلى سوريا. وقد روّج لهذه النظرية رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، دون أن يقرن موقفه بمعلومات أو أدلة.
وكرر إعلاميون وسياسيون آخرون الاتهام السياسي لـ«حزب الله» والنظام السوري، قبل أن يتبين أن المواد التفجيرية التي كانت موجودة في «العنبر 12» تعود إلى العام 2013، حسبما كشفت مراسلات رسمية بين الإدارات والأجهزة الأمنية والجمارك، تشير إلى دخول هذه المواد إلى لبنان على متن سفينة «روسوس» القادمة من جورجيا والتي أوقفت في مرفأ بيروت بسبب مخاوف السلامة، فأنزلت حمولتها الخطيرة التي كانت متوجهة إلى موزمبيق، وأودعت في المرفأ، الذي توالى على إدارته عدد من المسؤولين دون أن يقوم أي جهاز أمني أو إداري أو حتى قضائي بمتابعة الملف على مدى 7 سنوات قبل وقوع الانفجار.
وضعت القضية تحت عنوان الإهمال والتقصير، وهذا ما توصّل إليه قاضي التحقيق العدلي السابق فادي صوان، الذي تنحى عن القضية، بسبب الارتياب، والشكوى المقدمة ضده من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، وقد ورد اسماهما في لائحة الذين استدعاهم القاضي صوان للتحقيق، ومن بينهم رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، الذي وقفت طائفته السُنّيّة إلى جانبه، بعد أن قاطعته سابقاً بسبب ترؤسه الحكومة دون مباركة زعيم الطائفة سعد الحريري.
حرك انفجار المرفأ، الغرائز المذهبية، واصطفت كل من «دار الفتوى» والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والرئيس سعد الحريري ومعه تمام سلام ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة، ليدافعوا عن رئاسة الحكومة كموقع للسُنّة في الهرم المؤسساتي للدولة، وهو ما فعله أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي تجاهل طلب رفع الحصانة عن نواب استدعوا إلى التحقيق الذي ظل معطلاً منذ ذلك الحين إلى أن قرّر القاضي صوان التنحي عن القضية.
وقبل خمسة أشهر تقريباً انتقل الملف إلى القاضي طارق البيطار الذي باشر التحقيقات مجدداً ليتوصل إلى ما وصل إليه سلفه، صوان، باستدعاء مسؤولين في موقع القرار سبق ان استدعوا للاستماع إليهم، لكن اللافت كان ظهور أسماء جديدة في اللائحة، وفي مقدمتها اسما وزير الداخلية السابق نهاد، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم .
استدعاءات البيطار
وما قام به القاضي صوان، لجأ إليه القاضي الجديد طارق البيطار، إذ انطلق من أن الحادث ناتج عن إهمال وتقصير، من مسؤولين في موقع رئاسة الحكومة، أو وزراء ونواب وقادة أمنيين وعسكريين وقضاة وموظفين إداريين، سبق للقاضي صوان أن ادّعى على بعض منهم وأوقفهم وأطلق سراح بعضهم الآخر لعدم ثبوت معرفتهم بالموضوع أو أنهم قاموا بواجباتهم فعلاً.
لكنّ ما طلبه القاضي صوان ولم يلبّ، هو رفع الحصانات عن نواب ومسؤولين، وملاحقة موظفين كبار. وهو التحدي نفسه الذي يواجهه اليوم القاضي البيطار، الذي يحظى بمساندة أهالي شهداء المرفأ وإصرارهم على استكمال التحقيق.
غير أن قوى سياسية رفضت التجاوب مع البيطار متهمة إياه بإصدار استدعاءات مسيسة للتوظيف السياسي، وهذا ما نبّه إليه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في كلمته الأخيرة أمام المؤتمر الوطني للإعلام، داعياً إلى الكشف عن الحقيقة أمام الرأي العام، دون استغلال القضية لمصالح فئوية.
وقد طالب نصرالله بأن يُعلن أمام اللبنانيين كيف حصل التفجير ومَن يقف وراءه، وما هي أسبابه وأهدافه، رافضاً كل الاتّهامات غير المسؤولة في هذا السياق، إذ أن ورود اسم المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم كمستدعى للتحقيق، شكل مفاجأة في الوسط السياسي متسبباً برفع منسوب الكلام عن تسييس الملف من أجل استهداف مرجع أمني بارز حقق إنجازات وطنية عديدة، مثل إطلاق مخطوفين وإجراء عمليات تبادل أسرى، كما في نقل رسائل داخلية بين أطراف سياسية متباعدة، قرّب بينها، أو في إحباط عمليات أمنية تخريبية، علماً بأن جهاز الأمن العام الذي يشرف عليه إبراهيم، ليس مسؤولاً عن الأمور اللوجيسيتية أو الإدارية لمرفأ بيروت ويكاد دوره فيه يقتصر على منح التأشيرات.
ومما عزز الشكوك بشأن تسييس الملف، ظهور حملة إعلامية متزامنة مع الاستدعاء القضائي للّواء إبراهيم، اتهمته بامتلاك أموال ضخمة في الخارج.
الحملة على اللواء ابراهيم
لم تأت هذه الحملة، إلا في سياق خطة، تستهدف الدور الأمني كما السياسي الذي يقوم به اللواء إبراهيم محلياً وإقليماً، لاسيما في تواصله الدائم والمباشر مع قيادات سورية لإزالة العراقيل أمام التعاون المنشود بين بيروت ودمشق، اللتين تربطهما دورة اقتصاد واحدة، لكنها محرمة غربياً وخليجياً.
فالتضليل الذي مورس ضد المدير العام للأمن العام، عبر نشر مزاعم حول قيامه بنقل مواد كيميائية إلى سوريا لقمع المسلحين المتمردين، لم يرد في أي من التحقيقات الدولية، ليتضح أن من شن حملة التشويه ضد اللواء إبراهيم، ليست سوى جهات محلية متضررة من الدور والمستقبل السياسي الذي يمكن أن يلعبه بعد تقاعده، حيث يكثر الكلام عن إمكانية ترشحه في الانتخابات النيابية المقبلة تمهيداً لتبوئه رئاسة مجلس النواب.
ورغم نفي إبراهيم لهذه الطموحات، ذهب اللواء البارز إلى القضاء، ليكشف مَن يقف وراء الحملة الشخصية التي تستهدفه، وقد بدأت تظهر معلومات تشي بهوية من يقف وراء هذه المسرحية.
إن التحقيق القضائي بانفجار مرفاء بيروت الذي افتتحه القاضي صوان ويتابعه القاضي البيطار، يرتكز على مراسلات رسمية تشير إلى علم المسؤولين المسبق بوجود «نيترات الأمونيوم»، وبالتالي فإن هذه المواد الخطيرة لم تكن مخزنة بشكل سري، وإنما دخلت إلى لبنان بشكل علني، ما يشير بوضوح إلى حصول تقصير فادح من المسؤولين لعدم معالجتهم هذه القنبلة الموقوتة منذ العام 2013.
Leave a Reply