كتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في إحدى مقالاته عن حالة فريدة من نوعها، عن تدخل الشرطة الفرنسية لتفريق الشباب الفرنسي الذي خرج في مظاهرة بباريس احتجاجاً على سوء الأوضاع الإقتصادية والسياسية. قامت الشرطة على الفور وفرقت جموع المتظاهرين بالقوة، ولم يبق منهم إلا شاب واحد رافعاً لافتة احتجاجٍ، فتقدم منه ضابط الشرطة وسأله: لقد انصرف الجميع فهل تريد تغيير العالم وحدك؟ فأجابه الشاب بكل ثقة وسكينة: لا، أنا لا أريد للعالم أن يغيِّرني!
الشيخ ياسر عودة، واحد من هؤلاء المصطفين المخلصين الذين يرفضون أن يغيّرهم العالم الذي يجرف في طريقه معظم الناس. ولهذا تراه يرفع الصوت عالياً «بدنا شوية كرامة، هالشعب من حقو يعيش بكرامة.. طالما قدرت الحياة في حيّ السلّم، طالما قدرت طاقة السكان على تحمّل الحياة وما مكّنهم من الصمود والاستمرار والعيش بدون كهرباء ولا ماء ولا طرقات ولا كرامة ولا احترام لهم على أبواب المستشفيات والمدارس الحديثة التي هي للاحزاب والزعماء».
بهذا الأسلوب البسيط الموجع، يبهر الشيخ عودة مستمعيه ومتابعيه الكثيرين على «اليوتيوب»، من مسجد صغير ومتواضع في حي السلم بالضاحية الجنوبية في بيروت، رغم وجود العديد من الجوامع الفارهة، وفي وقت تستخدم فيه «ثورة الاتصالات» من أجل تسعير الشحن المذهبي والطائفي وتعميق التفرقة والكراهية والحقد والجهل والغباء بين الناس.
في هذا الجو المعتم القاتم المليء بالمآسي والويلات الاجتماعية والدينية، يحمل الشيخ عودة قنديله الساطع بنور الإيمان بالله وحده، بعيداً عن الخرافات التي زعزعت أركان الدين الإسلامي، متميزاً بقدرته الهائلة على فتح الأبواب المغلقة وفك الطلاسم المستعصية، ومجاهداً من أجل أن يتحرّر الإنسان من رواسب الجهل والتخلف والعودة للتمسك بجوهر الدين والحكمة والعقل.
حين تسمع محاضراته، تبهرك سعة أفقه ورحابة عوالمه، ويدهشك عمق تجذَّره في التراث، فيما أنامله تطال أبعد المجرَّات، بأسلوب رشيق وسلس يخلو من الجفاف والصرامة اللذين يميزان خطابات رجال الدين في العموم. حيويته وطرافته لا تدفعه للتخلي عن النهج الأكاديمي الديني الرصين، وجمال لغته وثراء أفكاره وعمق تجربته تذكرنا بأستاذه، المرجع السيد محمد حسين فضل الله، الذي يكنّ له عودة كل الوفاء والتقدير، والإعجاب والاحترام.
يقتفي الشيخ عودة خطى المعلم السيد فضل الله في فهم الروح الصافية المبدعة الثائرة على الظلم والصغائر والنقائص في سبيل العدل وحرية الإنسان، وخير الحياة، وتطهير السرائر وتغليب الرحمة والمحبة. هذه القوة الحقيقية التي نادى بها الرسول الأكرم محمد (ص)، رسول المحبة والرحمة والحنان والتسامح، والذي على نهجه كان الثائر الأعظم الإمام علي، بموقفه الثابت والراسخ في تغليب الرحمة على القانون، والمحبة على العداوة والتسامح على العقاب، وهو موقف كان يواجه به طغاة زمانه، أصحاب الجاه والمال الحرام والقدرة الكاسحة على الافتراء والافتراس، وهذا ما يواجهه الشيخ ياسر عودة هذه الأيام، فنجاح محاضراته على «يوتيوب» حولّها إلى منافسات شديدة بين بعض علماء وشيوخ الدين، وأدت إلى كثرة المعارك الباردة بينهم وفاحت رائحة الحسد، وتكفيره وإخراجه من الملَّة.
و رغم كل ذلك يقدّر الشيخ عودة خصومه ومعارضيه، ويقول كلمته الصادقة الحارة لخدمة الانسان الذي كرَّمه الله سبحانه وتعالى، بينما أذلّه و«بهدله» الكثير من رجال الدين قبل رجال السياسة.
وهذا ما يؤلم الشيخ ويُبقي في أعماقه حزناً شديداً على الدين وعلى الفرقة بين المسلمين من السنة والشيعة وغيرهم من الطوائف الأخرى. وهو يكرر دائماً أن الإسلام دين بلا مذاهب، ويسعى بكل ما أوتي من علم وحكمة لردم هوَّة الاختلاف والتنابذ بين السنة والشيعة، داعياً إلى تحكيم العقل والحكمة والضمير والالتزام بجوهر الإسلام بوصفه ديناً شاملاً خاتماً للأديان التي سبقته.
من هذا المغترب البعيد، ومثلي الكثيرون، نشكر الشيخ ياسر عودة على محاضراته القيِّمة وأسلوبه الشيِّق المعتدل، وعلمه الغزير العميق، مثل بئر ننهل منه في غربتنا القاسية، علماً وتبصراً في الدين الذي يحاربه الطغاة والبغاة، هنا في الغرب وهناك في الشرق.
كل ما أخشاه يا سيدي هو أن يضيع صوتك الصادع بالحق في برِّية الظلم والطغيان والجهل والفقر، تماماً كما يضيع صوت فيروز في آخر المسرحية الرحبانية «يعيش يعيش»:
طلع المنادي ينادي، ما فيهاش إفادة
الرعيان بوادي والقطعان بوادي
حاجي تصرِّخ يا منادي
من وادي لوادي
/
يقول سليمان الحكيم «مع الحكمة الواسعة يزيد الحزن»، وكم أخشى أن تكون حكمتك هي سبب حزنك الظاهر أبداً على محيّاك!
Leave a Reply