عُلّقت الأزمة اللبنانية على أزمات المنطقة، وتحديداً الأزمة السورية التي تنتظر إنعقاد مؤتمر «جنيف 2»، لإيجاد الحل السياسي لها على خلفية ما اتفق عليه القطبان الدوليان أميركا وروسيا في حزيران (يونيو) العام 2012 في «جنيف 1»، على خارطة طريق للوصول إلى وقف الأعمال العسكرية، ثمّ إجراء مفاوضات بين النظام السوري ومعارضيه لإنجاز إتفاق سياسي يصيغ دستوراً جديداً، وإنتقال للسلطة، إلا أنه مرّ عام ونصف العام ولم يتم سلوك هذه الخارطة، لأن كل طرف من الأطراف السورية المتصارعة كان وبدعم إقليمي ودولي يحاول أن يغيّر من الواقع العسكري على الأرض، ليفرض الحل ويقيم النظام السياسي الذي يريده، فعطّلت تركيا وقطر الحلول، لتوصل «الإخوان المسلمين» إلى السلطة، وجرّبت أكثر من عمل عسكري من قبل المعارضة المسلحة لإسقاط النظام، أو قضم مناطق منه، لفرض شروطها، فحاولت السيطرة على دمشق وفشلت، لا بل أن الجيش السوري توسّع بإتجاه الغوطة الشرقية في ريف دمشق، وكان أنهى معركة القصير الإستراتيجية لتصبح محافظة حمص تحت قبضته، وهو إنتقل إلى حلب وسجّل تقدّماً في عدد من المناطق الإستراتيجية، وكذلك فعل بإتجاه درعا، كما في منطقة القلمون التي يقضمها منطقة منطقة.
جنبلاط |
هذه الإنجازات العسكرية للنظام السوري، أعطاته قوة إضافية، وبدأ معارضوه الداخليون وخصومه الإقليميون والدوليون يفقدون أوراقهم في الساحة السورية. وتعزّز المحور الحليف لسوريا، بدءاً من إيران إلى «حزب الله» وحلفائه في لبنان، إلى الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي، وصولاً الى التحالف الدولي المكوّن من روسيا والصين ودول «البريكس» الأخرى، وفرض على أميركا أن تعترف بالنفوذ الروسي في سوريا، وأنها تدخل في إطار مصالحها الاقتصادية والقومية والإستراتيجية الأمنية، وكذلك أقر بالدور الإقليمي لإيران، بالإنفتاح الأميركي على طهران وبدء البحث بحل موضوع البرنامج النووي الإيراني على أنه للإستخدام السلمي والتنموي، وهذا ما أقلق السعودية التي رأت أنها في الحروب التي ساندت فيها أميركا سواء في أفغانستان ضد الشيوعية، إلى إسقاط النظام العراقي برئاسة صدام حسين، جاءت لغير صالحها، بل كسبت منها إيران، وها هي تخسر سوريا بعد أن راهنت على عدوان عسكري أميركي عليها، لكن الإدارة الأميركية تراجعت عنه.
أمام خسائر السعودية وحلفاء لها، في العراق بعد إجتثاث حزب البعث العربي الإشتراكي منه، فهي أيضاً لم تربح في محاولتها إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد الذي لم تتم تنحيته من منصبه، ولم يرضخ للشروط التي عرضت لعزله، وقد أفشل المشروع الذي كان مرسوماً لسوريا، و بدأ العد العكسي لخروج القوى التي تورّطت بالحرب عليها، وفق ما يؤكّد مسؤولون سوريون لزوارهم من حلفائهم اللبنانيين، بأن المؤامرة على سوريا في بدايات نهايتها، وهي ستخرج منها سواء عُقد مؤتمر «جنيف 2»، أم لم يُعقد، لأن النظام بدأ يستعيد ميدانياً الأرض، وأن مَن كان يتحرك ضده من المواطنين بدأوا يعيدون حساباتهم لجهة إلتفافهم حول الدولة السورية، بعد أن شهدوا ما فعلته الجماعات المسلّحة التي بلغ تعدادها حوالي أكثر من 1800 مجموعة، وفق تقارير دولية، وقد فرضت إرهابها على المواطنين وكبّلتهم بأنظمة متخلّفة تحت شعارات دينية لا تمتّ الى الإسلام ورسالته السمحاء بصلة.
فسوريا لم تخضع للنفوذ الأميركي والتركي والخليجي، إذ تضرّرت السعودية من خسارتها فيها، وبدأ البحث للتعويض عنها في لبنان، الذي يدور النزاع عليه، ولمن سيكون النفوذ فيه، وهو تاريخياً تتنازعه الدول الإستعمارية والمحاور الإقليمية والدولية، إذ ومنذ زمن سقوط السلطنة العثمانية، وهو ينتقل من وصاية أجنبية أو عربية إلى أخرى، ولم تعرف ساحته الهدوء الداخلي إلا وفق تسويات خارجية، وهو ما يفسّر أن لبنان بات رهينة دول، ولن يفرج عنه إلا إذا حصل إتفاق على حل، كما جرى في الطائف في العام 1989، بعد حرب دامت 15 عاماً، او ما جرى في الدوحة حيث أنهى أزمة سياسية ودستورية، بعد معارك عسكرية وتوترات أمنية، لكنها لم تتسبب بحرب أهلية شاملة، لأن لا قرار دولي بتفجير الوضع الأمني.
فلبنان يتنازعه صراع سعودي-إيراني، بعد أن تمّ حسم المعركة في سوريا وأُخرِجت الدول منها التي عملت لإسقاط نظامها، وغضبت السعودية من الحوار الأميركي-الإيراني، واوقف العدوان الأميركي على سوريا، فرفعت الصوت ضد الولايات المتحدة الأميركية التي قرّرت إرضاء المملكة، فزارها وزير الخارجية جون كيري، ومنها أعلن أن لبنان سيكون جائزة ترضية للسعودية، ويتمثّل ذلك بأن لا تشكّل حكومة فيها «حزب الله» الذي شمّ رائحة صفقة قد تقوم على حسابه، بإخراجه من الحكومة، فأجرى معركة استباقية شنّ فيها هجوماً سياسياً، بأن لا حكومة دون تمثيله فيها، حيث تحدّث رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» محمد رعد بلهجة تصعيدية وغير مألوفة، من أن مَن يفكّر بأن يعزل «حزب الله» عن الحكومة ستُقطع يده، وقد اعتبر كلامه من قوى 14 آذار، أنه استعادة لسيناريو 7 أيار 2008، وقد تزامن التصعيد السياسي هذا مع إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، أن محور المقاومة والممانعة إنتصر في معركته بسوريا، ونصح الرئيس سعد الحريري أن يعود إلى لبنان، إذا كان يريد أن يكون شريكاً في السلطة، فكان الجواب من قبل «تيار المستقبل» وحلفائه في «14 آذار»، أن لا حكومة و«حزب الله» يقاتل في سوريا، وسلاحه موجود في الداخل اللبناني يفرض عبره، ما يريد من خلال تشكيل الحكومة التي ستخضع بقراراتها للثلث المعطّل الذي يطالب به، وهو يقوم بفتح مجلس النواب وإغلاقه ساعة يشاء، كما أنه يحمي المطلوبين للمحكمة الدولية بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فالسعودية التي ساهمت في إنجاز اتفاق الطائف عام 1989 وأنهت الحرب الأهلية في لبنان بقرار دولي-إقليمي، وشاركت عبر رفيق الحريري في السلطة من خلال توافق سعودي-سوري وبغطاء أميركي، شعرت في مرحلة التسعينات من القرن الماضي، أن سوريا انفردت في القرار اللبناني، ولم يعد للحريري أي دور سياسي، فاتُّخِذ القرار بعد انحياز سوريا الى جانب إيران في العراق، أن لا يكون لبنان مركز نفوذ لسوريا فيه، فصدر القرار عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559 الذي أنهى الدور السوري في لبنان، وطالب بإنسحاب القوات السورية منه، وقد تمّ سحب الغطاء الأميركي عن سوريا في لبنان، ليعطى للسعودية التي لم تتمكّن من أن تحكم منذ 2005 أيضاً منفردة عبر «14 آذار»، بل من خلال مصالحة مع النظام السوري، في العام 2009 وعاد الطرفان شريكين في الحكم بلبنان من خلال حلفائهما، الى أن تعطّلت الشراكة مع سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري مطلع عام 2011 وتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي التي كان النفوذ فيها لـ«حزب الله»، وقد حاول ميقاتي مع النائب وليد جنبلاط إعادة الدور للسعودية بإستقالة الحكومة، وتكليف النائب تمام سلام بتشكيلها، إلا أن السعودية ترفض أن يشاركها أحد فيها، بل تريدها «حيادية» وهو ما رفضه «حزب الله» وحلفاؤه، ولكن يبدو أن مثل هذه الحكومة لن تولد، حيث تمهل رئيس الجمهورية ميشال سليمان بالتوقيع على مراسيمها، وتريث النائب جنبلاط بالموافقة عليها، خوفاً من ردود الفعل ضدها من قبل «حزب الله» في الشارع واستعادة سيناريو 7 أيار و«القمصان السود»، وهو ما ورد في مواقف نواب ومسؤولي «حزب الله» مؤخراً، وقد تناهت لهم أن ضغوطاً تمارس على الرئيس سليمان لتشكيل حكومة أمر واقع، فتمّ توجيه رسالة قاسية له أن لا يفعل إذا ما طلب المسؤولون السعوديون ذلك، لأن المعلومات تشير الى أن رئيس الجمهورية سبق له وقال في أيلول الماضي وقبل ذهابه الى نيويورك، أنه سيوقّع مراسيم الحكومة، لكنه تراجع عن موقفه، وهو ما أرجأ زيارته الى السعودية التي كانت مقرّرة، حيث يخشى أن تكون دعوته من جديد لزيارتها مرتبطة بموافقته على حكومة أمر واقع وهو ما يفسّر وجود الرئيس سعد الحريري في لقاء الرئيس سليمان بالملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز.
وهكذا يُرهن لبنان سواء في تشكيل حكومته أو في إنتخاب رئيس جمهوريته أو إنتخاب مجلس النواب، للخارج من الدول التي تفاوض على حسابه، ولذلك يأمل اللبنانيون أن تنجح المفاوضات السعودية-الإيرانية المرتقبة، وكيف سيكون تقاسمه ولمن سيكون النفوذ فيه، فهل يكون للسعودية منفردة، أو تشاركها فيه إيران وسوريا؟ وهذا متروك لتطوّر الصراع على سوريا وعلى النفوذ في المنطقة، وموقع لبنان فيها.
Leave a Reply