«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
استطاع جبران خليل جبران، الذي أقام في نيويورك فترة من الزمن أن يؤلف عدة كتب باللغةالعربية لأنه لم يكن بعد، قد تمكن جيدا من إجادة اللغة الإنكليزية بشكل يساعده على تسليم كتبه التي ألفها إلى المطبعة فورا. بل كان يستعين بمن هو أقدر منه في كتابة اللغة الإنكليزية بشكل سليم وخاليا من اية أخطاء تذكر، كي يتم بعدها ترجمة ما كتبه باللغة العربية، إلى لغة إنكليزية سليمة جدا.
حين انتهى من تأليف كتابه الرابع، حمل هذه الكتب الأربعة وطاف بها على بعض المكتبات ودور النشر في نيويورك، كما اتصل بالقيمين على دور النشر فيها، فلم يوفق بدار نشر واحدة تقبل أن تتولى وتنشر هذه الكتب المكتوبة بلغة عربية بعد ترجمتها للغة الإنكليزية. لذا رأيناه يعود في المساء منهوك القوى وليخرج بعدها إلى حيث يظن أنه يمكن للخمرة أن تساعده على نسيان أوجاعه وآلامه، غير أن ظنونه كلها تبخرت مع أنسام الليالي الباردة، ومع موجات الصقيع التي كانت قد بلغت حدا لا يطاق.
حياة جبران الخاصة
لم تكن حياته الخاصة حياة ليّنة وهينة أبدا، تحيط بها البحبوحة من كل جانب، بل كان في أواخر أيامه معتّل الصحة بشكل واضح وصريح، وعند أول زيارة له لطبيب صحة، وبعد أن تم الكشف والفحص عليه بشكل دقيق، وبعد مناقشة الطبيب والتعرف إلى مواطن المرض والضعف لديه وإلى ما يشعر به من ألم وأوجاع، وحينما عرف الطبيب الداء وصف له الدواء، فورا.
ولم تكن حياة جبران ترتبط بنظام غذائي أو صحي إطلاقاً، بل كانت تلك الحياة تكتنفها المتاعب والإعتلال والمنغصات من كل جانب، فضلا عما كان يواجهه من مشاكل عاطفية، ومواقف مستجدة، لم تكن متوقعة الحدوث، من قبل بعض أصدقائه مثل الشاعر إيليا أبو ماضي الذي كان حبل الود بينه وبين جبران حبلا مقطوعاً دائماً، وأيضا بعض صديقاته اللواتي انصرفن عنه حينما علموا بأنه يعاني من عدة أمراض جعلت منه إنسانا معتلا.
أضف إلى ذلك كله إشتداد المرض عليه، ذلك المرض الذي سبب له ضرب الرئتين المنهوكتين، الأمر الذي أضعف من عزيمته وقدرته، وأبعد عنه الأصدقاء والصديقات اللواتي حين تأكد لهن بأنه رجلا مريضاً انفض من حوله ما بقي من الصديقات وكن قلائل، وبعدما عُرف عنه أنه لا يزال على علاقة بصديقته القديمة ماري هاكسل التي أحبته وقدمت إليه كل ما يحتاجه من دعم مادي ومعنوي وحنان وحب، وهي التي أوفدته إلى باريس على نفقتها الخاصة ليدرس أصول وقواعد الرسم، والتي بقيت على وفاء دائم له، أما جبران، وبعد أن عاد من باريس كان له رأياً آخراً، ومختلفاً جدا، وبالرغم من تنكره لتلك العلاقة الحميمة التي كانت تربطه بماري هاكسل إلا أنها بقيت ماري هاكسل تكن له كل ود وحب وإحترام وتقدم له بين الحين والآخر، دعما مالياً كان هو بحاجة ماسة إليه.
لقد احتفظت ماري هاكسل بكمٍ كبيرٍ من الحب والمودة لجبران، بينما رأيناه يصرّ إصرارا غريباً على رفضه للإلتقاء بها كما كان يفعل قبل أن تبعث به إلى باريس لدراسة قواعد الرسم وأصوله الفنية.
زيارة الطبيب ونصائحه لجبران
وفي إحدى زيارات جبران لأحد الأطباء نصحه الطبيب قائلا له: عليك أن تبتعد كليا عن معاشرة النساء، وأن تتوقف عن تناول الخمور في الليل والنهار، إن أنت تقيدت بهذه النصائح الطبية فلسوف تعيش سعيدا، وإلا..
لقد ضرب جبران بنصائح الطبيب عرض الحائط، فلا امتنع عن اللهاث خلف النساء، ولا هو ابتعد أو توقف عن تناول الكحول والخمور والمسكرات.
لم يلتزم جبران بنصائح الطبيب إطلاقاً، بل استمر في سلوكه هذا وهو سلوك مؤذي ومضر جدا، لدرجة أنه ساءت حالته الصحية كثيرا – سيما وكنت أنصحه – عفوا – الكلام لصديق جبران خليل جبران الأستاذ كريم مارون الصديق الصدوق، هذا الصديق الذي أمضى مع جبران أكثر من ثمانية أشهر كانت هي الأشهر الأخيرة من حياة جبران أمضاها وهو يلازمه ليلا ونهارا، صديق جبران هو الذي روى لي هذا وغيره في مقابله خاصة سنأتي على ذكرها فيما بعد.
وتابع كريم مارون حديثه لي قائلاً: كنت أنصحه كثيرا، وأذكره بتوجيهات الطبيب وتنبيهاته، وقد شدد الطبيب على جبران الإلتزام بتعليماته كطبيب، لكنني – الكلام لكريم مارون – غير أن جبران كان يصم أذنيه، وكنت أذكره بنصائح الطبيب، غير أنني فشلت في تسجيل أي نجاح يذكر كما فشلت في إقناعه بالإقلاع عن تناول الخمور والمسكرات، والعدول أيضا عن الإلتقاء بالنساء خشية أن تتدهور صحته وتزيد في إعتلاله شيئاً فشيئاً.
وقال كريم مارون: غير أن جبران كان دائماً يُلقي بكل هذه النصائح في قاع المحيط، وكثيرا ما يُلح عليّ أن أكون رفيقه في هذه الليلة، فكنت أقدم له الأعذار والألم يعصر قلبي، دونما أية نتائج إيجابية تذكر.
بداية النهاية
حينما تم هذا اللقاء مع كريم مارون، في منزله في بروكلن نيويورك، كان برفقتي الشيخ وديع البغدادي، المشهور بصوته الرخيم وبإجادته الغناء وخاصة القدود الحلبية والمواويل البغدادية، والذي كان يجلس في زاوية من الصالون مع السيدة الفاضلة شقيقة السيد كريم مارون.
وتابع كريم بقوله: وفي ليلة من ليالي الشتاء القاسي، والبرد القارس، وفي شهر كانون الأول، في هذه الليلة أصر جبران على أن نسهر هذه الليلة في الحانة الفلانية، وأن أكون له رفيقاً. لم يقبل اعتذاراتي، فقد ألح عليّ ألا أدعه يسهر هذه الليلة وحيدا، وطلب إليّ ألا أخيّب رجاءه هنا رأيت نفسي مجبرا ومضطرا لأن أوافقه على طلبه هذا كي لا أزيد في آلامه وأوجاع قلبه، ولكي لا أدعه يذهب إلى هذا الملهى الذي اعتدنا الذهاب إليه سوياً، لم ولن أدعه يذهب إليه وحيداً، حيث السكارى من الجنسين ومن كل أنواع البشر، وخاصة النساء اللواتي يتجردن من ثيابهن ليصبحن شبه عاريات.
لقد وافقت بعد إلحاح من جبران، أن أكون له رفيقا في هذه الليلة شرط ألا تمتد سهرتنا حتى مطلع الفجر، فوافق على هذا الكلام.
رافقته في تلك الليلة، كل لا يُصاب بأي أذى من قبل العشرات من السكارى، ولأنني كنت متأكدا من أن صحته أخذت تتدهور شيئا فشيئا. وخشية مني عليه ألا يغوص في بحيرة من الملذات الرخيصة والسهلة، والإفراط في تناول المسكرات، بالرغم من إعتلال صحته، وعدم إلتزامه بنصائحي ونصائح الطبيب.
الليلة الأخيرة
قلت لمحدثي، وهو ممدد في سريره بمنزله، والذي كان يعاني من متاعب الشيخوخة وبلوغه العقد السابع ونصف من العمر، قلت له: حبذا يا أخ كريم، لو ننتقل بعد الذي سمعته منك لتحدثنا عن تفاصيل الليلة الأخيرة من حياة جبران خليل جبران، هذه الحياة التي انقضت بسرعة والتي لم تتجاوز أو لم تبلغ العقد الخامس بعد وتوقفت عجلاتها عندما بلغ جبران 84 عاماً من عمره فقط:
قال محدثي وهو يتذكر الأمور بدقائقها: لقد حفلت حياة جبران بشتى أنواع المصائب والأحزان، منها: أنه فقد شقيقته سلطانة ثابت التي ماتت بمرض السل، ثم وفاة شقيقه بطرس الذي مات هو أيضا بمرض السرطان، الأمر الذي استوله في نفس جبران بركانا من الآلام والأحزان.
أحزان الدنيا كثيرة
وقال محدثي: هذه الليلة كانت ليلة حزينة بالفعل، وكيف لي أن أنساها، لقد حُفرت على صفحات قلبي حفراً، لذا لن تغيب عن البال أبدا.
المهم، توجهت برفقة أخي وصديقي جبران من البيت حيث كان يسكن في بناية تملكها إمرأة حديدية، وذلك في الشارع العاشر من منطقة مانهاتن في مدينة نيويورك، توجهنا إلى الحانة وحين دخلنا استقبلتنا أنغاماً موسيقية حزينة، وجلسنا لنمعن النظر في هذه الأجساد الغضة، وهي تتمايل على أنغام الموسيقى الهادئة، وبدأنا بشرب الويسكي، وقضينا على الزجاجة الأولى وتبعتها الثانية، ثم كادت الثالثة تلحق بأخواتها، وبعد لحظات شعرت برأسي تلف وتدور، وكذلك بدا التعب على وجه جبران، وبدأت عيناه تتورمان، بشكل أخافني، وتأكد لي لحظتئذ أن التعب بدأ يتملك جسده النحيل، وأن هذا التعب كان نتيجة لما تجرّعه من الويسكي، وكان بين الحين والآخر يستسلم لسعال شديد، فقلت له: جبران، هيا بنا يا أخي، قبل أن ينبلج الفجر علينا ونحن هنا ما زلنا نعاقر الخمرة.
سألني جبران قائلاً: كم الساعة الآن؟
قلت: الثانية والنصف صباحاً!
قال: وكم بقي لطلوع الفجر؟
قلت: قليلا جدا..
قال: لنفرغ هذه الزجاجة ونتحرك بعدها.
فتناولت الزجاجة وأفرغتها على الأرض، وقلت له: لقد أفرغنا الزجاجة، والثمن مدفوع، هيا!
وقال محدثي كريم، وقفنا لنتحرك باتجاه باب الخروج من هذه الخمارة اللعينة وقد أمسكت بيد جبران وهو أمسك بذراعي، هنا شعرت بأن جسد جبران يرتجف من البرد، أسرعت بخلع معطفي ووضعته على أكتاف جبران، وفوق معطفه هو أيضا، ومع ذلك بقيت يده ترتجف فجأة صرخ جبران وبصوت عالٍ قائلاً لي: أمسك بي يا كريم، فأنا لا أقوى على السير، أمسكني يا كريم، البرد يكاد يمزق قلبي..
تقدمت بسرعة نحو جبران وأمسكت بذراعه وسرت معه خطوات الا أنه ألقى بجسده على إحدى الكراسي، طلبت سيارة تاكسي وقد حضرت هذه بسرعة ونقلتنا – جبران وأنا – من الخمارة إلى البيت.
وحينما كنا نصعد سلم البناية، مددت يدي إلى جيب جبران وأخذت مفاتيح الشقة وهيأتها، ففتحت الباب ثم أدخلت جبران إلى شقته ووضعته فوق سريره ونزعت حذاءه من قدميه وألقيت فوق جسده حراماً من صوف، وغطيته جيدا، وتركت له منفذا كي يتنفس من خلاله، بشكل طبيعي ومريح.
هنا تأكد لي أن جبران قد استسلم لنوم عميق، وهو بثيابه، فاتجهت بعدها نحو باب الشقة إستعدادا للخروج، وفيما كنت أقفل باب الشقة بهدوء، إذا بصاحبة المبنى وهي من نوع النساء الحديديات، تخرج من شقتها المقابلة لشقة جبران وفجأة صرخت في وجهي قائلة:
من أنت؟ وماذا كنت تفعل في شقة جبران؟
قلت لها: أنا كريم مارون، لبناني أعمل في محلات آل ملكو في شارع أتلنتيك أفنيو وهذه هي بطاقتي (آي دي)، أحضرت صديقي جبران إلى شقته وهو الآن، يغط في نوم عميق. وللحديث بقية في حلقة قادمة ان شاء الله
Leave a Reply