عماد مرمل – «صدى الوطن»
إذا كانت التحديات السياسية والأمنية في لبنان تحتل الدرجات الأولى من سلم الأولويات لدى السلطة والمواطنين، إلا أن غبار هذه التحديات وضجيجها لم يحجبا ملفات الفساد التي فرضت أيضاً إيقاعها في هذه المرحلة، خصوصاً ملف الإنترنت غير الشرعي الذي خرجت بعض فصوله من العتمة الى الضوء مؤخراً، لتفضح سنوات من السرقة والنهب لحقوق الدولة، إضافة الى تهديد الأمن القومي وتعريض خصوصيات اللبنانيين لخطر الانكشاف.
والمفارقة، أن اكتشاف هذه الفضيحة المدوية تم بالمصادفة، خلال المناقشات في إحدى اجتماعات لجنة الإتصالات والإعلام النيابية حول واقع قطاع الاتصالات، حيث أمسكت اللجنة بطرف خيط، سرعان ما امتد في اتجاهات عدة مع مرور الوقت واتضاح المزيد من الحقائق الصارخة في شأن المافيا المنظمة التي كانت تلجأ الى «تهريب» الإنترنت من الخارج عبر معابر غير شرعية، لا تخضع الى سلطة الدولة ورقابتها.
ومع تضخم كرة الثلج «الحارقة» وتدحرجها، باتت أسماء كبيرة وصاحبة نفوذ واسع، مقيمة في دائرة التهديد والملاحقة، بعدما تبين أنها متورطة في شبكة الإنترنت غير الشرعي أو على الأقل تغطيها، ما وضع القضاء أمام تحدي الصمود في مواجهة التدخلات والضغوط السياسية الهادفة الى حماية كبار القوم من المرتكبين والمشبوهين، وبالتالي المضي في تحقيقاته حتى توقيف كل المتهمين ومحاسبتهم أمام قوس العدالة.
الدولة تسرق نفسها!
وقد أظهر التوغل في مغارة الاتصالات أن باب استجرار الإنترنت غير الشرعي يفتح الباب على فضائح أخرى كانت «مستترة»، تتعلق بالتخابر الدولي غير الشرعي وبامتناع هيئة «أوجيرو» التابعة لوزارة الاتصالات عن بيع شركتي الخلوي التابعتين للدولة أيضاً خطوط الإنترنت المعروفة بـ«إي وان»، ما اضطر تلك الشركتين الى شراء الخطوط من شركات خاصة في السوق تبين أنها تحصل على الـ«إي وان» من «أوجيرو» ذاتها، بسعر 500 دولار للخط الواحد، ثم تبيعه بـ1800 دولار!
وبهذا المعنى، فان الدولة كانت تبيع نفسها الإنترنت بأضعاف سعره الحقيقي، الأمر الذي سمح لأصحاب الشركات الخاصة بتحقيق أرباح هائلة، على حساب الخزينة العامة!
وأكد مصدر مطلع في لجنة الاتصالات النيابية لـ«صدى الوطن» أن المؤشرات الأولية بيّنت أن الخزينة حُرمت خلال السنوات القليلة الماضية فقط من مئات ملايين الدولارات بفعل الهدر الحاصل في ملفي الإنترنت والتخابر الدولي، مرجحاً أن قيمة المبالغ المهدورة تتراوح ما بين 500 و600 مليون دولار.
وما يدفع الى الاستغراب هو أن المعدات المستخدمة في استجرار الإنترنت غير الشرعي، خلف ظهر الدولة، والمزروعة في العديد من المناطق اللبنانية هي من النوع الضخم الذي لا يمكن أن يسقط سهوا بغفلة عن الدولة، إلا إذا أراد بعض أجهزتها أن يتغافل عمداً عن المخالفات المرتكبة، لغاية في نفس يعقوب.
تحديات أمام القضاء
واللافت للانتباه في هذا السياق، أن مدعي عام التمييز، القاضي سمير حمود قرر الاستماع الى عناصر وضباط مخافر قوى الأمن الداخلي، الموجودة في المناطق التي ضُبطت فيها جزر الإنترنت غير الشرعي، لمعرفة أسباب عدم تدخلهم من أجل منع ارتكاب تلك المخالفات، وذلك خلافاً لقرار مدير عام قوى الامن اللواء ابراهيم بصبوص الذي كان قد رفض ملاحقة العناصر والضباط، بناء على تحقيق أجراه «فرع المعلومات» وانتهى الى عدم تحميل أي من هؤلاء المسؤولية عما جرى.
ويركز التحقيق القضائي حالياً على محاولة ايجاد تفسيرات للألغاز الآتية:
– كيف جرى إدخال المعدات التي استعملت في إنشاء محطات الإنترنت غير الشرعي الى الداخل اللبناني، من دون أن يضبطها أو يشتبه بها أحد؟
– كيف تمت عملية تركيب الأجهزة التقنية و«الأنتينات» الشاهقة في أماكن مكشوفة من غير أن تتنبه إليها القوى الأمنية؟
– ما هي طبيعة منابع الإنترنت المخالف للقانون، ومن أي دول كان يتم الاستحصال عليه؟
– ما هي امكانية حدوث تجسس اسرائيلي عبر الخطوط غير الشرعية؟
ولعل أخطر ما في هذا الملف يكمن في الجانب الامني، إذ أن «استيراد» الإنترنت عبر طرق ملتوية ومتفلتة من الضوابط الرقابية والقانونية، ومن ثم بيعه للمستهلك اللبناني، إنما ينطويان على مخاطر ومحاذير تمسّ سيادة الدولة والـ«داتا» الشخصية لمواطنيها، باعتبار أن الاختراق المخابراتي لشبكة الإنترنت التي تفتقر الى الرعاية الرسمية والحماية التقنية يصبح سهلاً ومباحاً، وبالتالي ليس معروفاً بعد ما إذا كان العدو الاسرائيلي قد استفاد من هذه «الخاصرة الرخوة» ليتسلل الى العمق اللبناني ويتجسس عليه، طيلة أعوام من «الفلتان الأثيري».
وما زاد الموقف تعقيداً وغموضاً هو التلاعب بـ«مسرح الجريمة»، حيث سارع البعض الى تفكيك المعدات التي تم ضبطها في نقاط بناء محطات الإنترنت، قبل اعطاء الإذن القانوني بذلك، مع ما يعنيه هذا الأمر من امكانية طمس الأدلة أو الـ«داتا» المتعلقة بفرضية الخرق المخابراتي، ما ولّد حالة من الريبة في صفوف عدد من النواب والقوى السياسية.
ويبقى الاختبار الأصعب أمام القضاء عدم لفلفة هذه القضية -كما درجت العادة مع ملفات الفساد في لبنان- سواء تحت وطأة الزمن أو تأثير الضغوط، وبالتالي فان عليه في هذه اللحظة المفصلية أن يحافظ على مناعته واستقلاليته حتى يقاوم «الفيروسات» التي تحاول اختراق جسمه وثنيه عن تظهير الحقيقة الكاملة لفضيحة الإنترنت، فهل ينجح في هذا الاختبار أم يصبح، هو، في قفص الاتهام؟
Leave a Reply