يرتبط شهر آذار في أذهان ملايين الناس، ومنذ مئات السنين، بالربيع وتجدّدِ دورة الحياة ولكنه ارتبط في أذهان أدباء العراق بواقعة مفجعة وداميه ألا وهي اغتيال الشاعر الرائد محمود البريكان في داره المنزوية في زقاق بصري هادئ (ولكنه لم يعد كذلك منذ تلطخت جدرانه بدم الشاعر).
فمنذ الأول من آذار 2002 لم يكن هناك من حديث في الوسط الثقافي العراقي وحتى غير العراقي يفوق حجماً و أثراً وفجيعة من مأساة الشاعر العراقي محمود البريكان ونهايته المأساوية على أيدي آثمة نقولها للأسف إنها بصرية أيضا (بل عائلية) أو هذا ما ظهر .
البريكان |
في ذلك الصباح الآذاري من عام 2002 استيقظ الأدباء والمثقفون على خبر فاجع يقول أن البريكان وجد صريعاً بسبع عشرة طعنة في بيته المنعزل ولم يترك القتلة فرصة لهذا الشيخ السبعيني الذي عاش في عزلة لأكثر من نصف قرن تاركاً خلف بابه ألوان الحياة والشعر والأحبة فكانت فرصة لأسياد الظلام والمرضى بشهوة القتل والطمع المادي ان يمارسوا ساديتهم ورغائب الإقصاء و تقنيات العدم إزاء كائن شعري ظل لصيقا بالعزلة والوحدة والهدنة الطويلة مع الحياة. وقد ضج العراق يومها بتساؤلات صامتة مثل من قتلَ البريكان؟ ومن كان المحرِّض أو الدافع على اغتياله بهذه الوحشية وهو الإنسان المسالم الذي كان بريئاً حتى من نفثات الريح وأزيز الشهوات؟ وهذه الأسئلة وسواها الكثير ظلّتْ طيَّ الصدور بسبب الجوِّ الخانق الذي ضلل الجميع بدخان الصمت واللاأبالية.
وكنا يومها نعمل في صحيفة «الزمن» وعرفنا من خلال اتصالاتنا الشخصية انَّ حقيقة القتل والقائمين به ستبقى بعيدة عن الظهور لأسباب لا تخفى على أحد تتصل بأسرة الراحل تحديداً والجهات الساندة لها وإن ما نشر في الصحف من أسماء ووقائع لا تمت إلى الحقيقة بصلة فكان علينا أن نبحث عنها، وقررتْ رئاسة التحرير أن ترسل الزميل وجيه عباس إلى موقع الجريمة في مدينة البصرة وقد تصدّى الزميل وجيه بشجاعة مشهود له بها لتنفيذ هذه المهمة مع خطورتها وتراكماتها الأمنية والثقافية وحتى العائلية.
وبعد يومين كاملين عاد الزميل وجيه عباس من البصرة بعد أن اطّلع ميدانياً على الحقائق الغائبة أو المغيبة لظروف جريمة اغتيال محمود البريكان ونشر تقريراً مطولاً أوضح فيه بالإشارة والتلميح إلى الأيدي التي ساعدت أو دفعت بهذا الإغتيال البشع الذي لم يشهد له تاريخ الأدب العراقي من قبل ذلك، إن البريكان كان أول أديب يقتل بصورة علنية وخارج غطاء الجيش أو الأمن وزنازين الموت!.
والغريب أن موضوع الزميل وجيه نشر دون أن يحرك ساكناً في دوائر الداخلية والعدل أو محافظة البصرة التي اكتفت بالصمت المريب وهو نفس حال أدباء البصرة الذين سكتوا في حينها عن بشاعة الحادث أو الواقفين خلفه فكانوا بمواقفهم هذه أشبه بشهود ضللوا العدالة والحقيقة وهذا ما لن يغفره لهم التاريخ، وقمت أنا بعد ذلك بإثارة الموضوع بأكثر من مكان ولكنّ الحقيقة ظلت نائمة وقد تناسى الجميع أنّ دمّ البريكان سيظل يطاردنا ما شاء لنا العمر أن نستكين للصمت واللاأُباليّة والعقوق.
وقد مرت قبل أيام ذكرى نحر جسد الشاعر البريكان وما زلنا نواجه بالصمت والخذلان وكأن هناك من يريد أن تطمر الحقيقة في قبر الشاعر الراحل، لكننا نجهر بالسؤال من هذا المنبر الحر: هل أن دم البريكان ضاع إلى الأبد؟!
وطوال السنوات الماضية كان البريكان حديث المجالس الأدبية ولاسيما بعد رحيله الدموي الذي لا يتناسب إطلاقا مع سيرته ومسالمته ووداعته التي أبعدته مضطراً أو مكرها عن الأضواء والمجتمعات واللقاءات حتى لاحقته الشكوك والتساؤلات حول أسباب هذه «العزلة» التي استمرت لأكثر من نصف قرن تغيرت من خلاله جغرافية العالم وموازينه وتاريخه ولم تتغير عزلة محمود البريكان!
لأجل هذا فإني استغرب مثلا أن يقال ان البريكان قد رحل في ذلك الصباح الآذاري، دعكَ الآن من فهم كيفية الرحيل ودوافعه فالذي أعيه أن البريكان وهو اللغز الأول في الشعر العراقي الحديث بلا منافس قد أعلن عن رحيله الأول منذ ان حكم على نفسه بالانقطاع التام عن حياته الأدبية وحتى غير الأدبية قبل رحيله الجسدي بأكثر من نصف قرن… وانطفأ واستعر خلالها الحديث والجدل حول عزلته من دون نتيجة تذكر، لأنّ الراحل كان يرفض بشدة الدخول في الجدل الدائر حوله بل كان يبتعد عن الإدلاء بأية أحاديث أدبية أو صحفية أو المشاركة في المهرجانات والأمسيات الخاصة والعامة ممّا ولّد طلاسمَ متراكمةً حول سيرته وشعره حتى جاء نبأ قتله في 1/3/2002 ليضيف طلاسم جديدة حول هذا الشاعر الرائد التي لن تُحلَّ بسهولة.
ولمن لا يعرف البريكان لاسيما من أجيال ملحمة «أمك على البير»! نقول إنه من الرعيل الأول لحركة الشعر العربي الحديث ومن أبرز أصوات القصيدة الجديدة بل كان أستاذا لرائدها الأول بدر شاكر السياب الذي كان يشيد بشاعرية البريكان وإمكانياته في أربعينيات القرن الماضي ولكن عزوفه العجيب عن نشر ما يكتبه -مع أنّ منجزه كبيرٌ- هو ما جعل عدة دارسين ومؤرخين يغفلون عن ذكره في ريادة الشعر الحديث إلى جنب زملائه: السياب والبياتي والملائكة.
نعم لم يرحل البريكان قبل عدّة سنوات بل إنه تغصّص مرارة الرحيل المتكرر منذ عشرات السنين حين استكان إلى عزلة أبدية ووحدة غير مسوغة ورفض دائم للحياة بكل صورها وهذا ما جعله لدى محبيه ومريديه راحلا ًقبل الأوان بكثير!. والحق إننا لا نستطيع الآن في الأقل أن نحيل سبب عزلة البريكان إلى موانع ذاتية تخصه هو، ذلك أن هناك أسباباً موضوعية كثيرة تقف خلف هذه العزلة التي لم يشهد مثلها أي شاعر عربي آخر، ولي هنا أن أطرح أسئلة ثقافية قد تفسر ما حصل للبريكان أو سواه: كيف احتفى المحيط الثقافي العراقي بهذا الشاعر الرائد؟ كم ندوة أو إحتفالية أقامتها مؤسساتنا الثقافية الغافية عن الشاعر ودوره التجديدي؟ ما هي الكتب التي تناولت شعر وسيرة البريكان؟ (لا توجد.. باستثناء جهد الشاعر عبد الرحمن طهمازي والناقد رياض عبد الواحد).. هل تم إطلاق اسمه على أحد شوارع «العشار» التي شهدته شاعراً و قتيلا؟! هل أنشئت جائزة باسمه ولا سيما للشعراء الشباب؟ أظن أن هذه الأسئلة وغيرها الكثير نكاد نطرحها مع كل مبدع عراقي يعاني من التجهيل والتهميش والإلغاء وهو لما يزل على ذمة الحياة. أمّا بعد ذلك حين يأتي خبر «الرحيل الرسمي» فيحدث الإهتمام بـ«الراحل» وتسوّد الصفحات ثم ينتهي كل شيء ويعود الراحل كأنه «ما كان»!
وقد تابعت بأسف شديد ما نشرته صحفنا و مجلاتنا بعد ذيوع خبر فجيعة البريكان و كيف أنّ الصحف مثلاً اكتفت بنشر «النعي» الذي عمّمه اتحاد الأدباء لينشر في أسفل صفحات الأخبار والمحليات ولم يكن أكثر من بضعة سطور عن «الحادث المؤسف»! أمّا بقية «القنوات» فلا زالت مشغولة بخلافات نوال الزغبي وديانا حداد والخوف من تدخل القطب الأوحد بينهما!.
الآن هل لازلنا نتساءل: لماذا مات البريكان… من زمان؟!
هنا نتحف القرّاء بمقطعين من شعره:
حارس الفنار
أعددتُ مائدتي.. وهيّأتُ الكؤوسَ.. متى يجيءُ
الزائرُ المجهولُ ؟
أوقدتُ القناديلَ الصغارْ
ببقيّة الزيت المضيءِ
فهل يطول الانتظارْ ؟
أنا في انتظار سفينةِ الأشباح تحدوها الرياحْ
في آخر الساعاتِ قبل توقّفِ الزمنِ الأخيرْ
في أعمق الساعاتِ. صمتاً: حين ينكسر الصباحْ
كالنّصل فوق الماءِ حين يخاف طيرٌ أنْ يطيرْ
في ظلمة الرؤيا
سأركب موجةَ الرعبِ الكبيرْ
وأغيب في بحرٍ من الظلمات ليس له حدودْ
أنا في انتظار الزائرِ الآتي، يجيء بلا خطًى
ويدقّ دقّتَه على بابي. ويدخل في برودْ
القصيدة
لكم أن تكونوا صغاراً
وأن تنعموا بالشباب
وأن لا تشيبوا سريعاً
لكم كل شيءٍ: جمال العطاء
وكنز الصداقة
لكم كل هذا الوجود العريض
فلا تقنطوا
ولا تتبعوا الشعراء إلى الوهم.
لن تجدوا حكمةً في البكاء.
تسيئون فهمي
إذا لم تروا غيرَ حزني العميق
نشدتُ الفرح
ولكن حملي ثقيل
فكونوا أخفّ وأوفر حظاً.
لكم أبسط الكلمات
ستكفي.
لكم فسحة الوقت:
أن تصنعوا أجمل الذكريات
وأن تعرفوا للفصول مسرّاتِها
وأن تتغنّوا معاً.
ألا آمنوا بالحياة
ولا تُفقِدوا لونَ هذا الحضور:
عذوبةَ هذا الهواء
وحريةَ الأفق المترامي
ودفء اليد البشرية
ومعجزةَ الحلم المشترك.
19/10/1984 – البصرة
Leave a Reply