بقلم الراحل اكبير يوسف الخال
– 1 –
يبدأ الشاعرُ الخَلْقَ بدافعٍ غامض، بشيءٍ ما غير واضح يريد أن يقولَه، وحين ينتهي، ويصير ما انتهى إليه، قصيدة، يجد- إذا كان شاعراً أصيلاً- أنَّ لا صلةَ بين ما أرادَ أنْ يقولَه وبين ما قاله في هذه القصيدة.
فلو قُدِّرَ الشاعرِ أنْ يحيطَ تماماً بما في نفسه، لاستغنى عن التعبير عنه بقصيدةٍ، فالقصيدة هي وحدها حقيقة ما كان في نفسه عند البدء بكتابتِها، ومن يعرف ماذا يريد أن يقول، فيقوله هو ذاته بقصيدة، لا يكون شاعراً ولا يمكن أن يكون.
مِن الشعراء مَن يظنّ أنَّ في قدرتِه أن يخبرَنا بما يجول في خاطره، فيعمد أحياناً إلى تدوينه نثرا على ورقة، أو في رسالةٍ إلى صديق. ولكنّه ما إن ينتهي من قصيدته حتّى يجد أنَّ ظنّه خاب، لأنَّ ما اخبرَنا به شيء وما أخبرتنا به القصيدة شيءٌ آخر.
ذلك أنَّ القصيدةَ، وهي خليقة فنّية- جمالية، لا توجد بمعزل عن مبناها الأخير، فما هي معنىً محض ولا هي مبنىً محض، بل معنىً ومبنىً معاً.
ويصطدم الشاعر في عمليّة الخَلق الشعري بتحدِّيَين: الأوّل هو حدود اللغة، أي قواعدها وأصولها التي لا يمكنه تجاهلها إذا شاءَ أنْ يكونَ لعمله معنىً لقراء هذه اللغة ووجود في تراثها الأدبي، والثاني هو أساليب التعبير الشعري المتوارث والمتّبع في التراث الأدبي، وهي أساليب راسخة في الأذهان وفي الذوق العام، بحيث يؤدّي الخروج عليها، بغير أناة ومهارة وفهم، إلى إفراغ القصيدة من حضورها لدى القُرّاء.
غير أنَّ هذين التحدِّيَين-القيْدين: قواعد اللغة وأصولها، والأساليب الشعرية المتوارَثة في تاريخ هذه اللغة الأدبي، هما اللذان يمتحنان أصالةَ الشاعر وموهبتَه الإبداعية، فإن هو خضعَ لهما تمام الخضوع خرجت قصيدتُه مبذولةً جامدةً آليّة، وإن تمرَّدَ عليهما تمامَ التمرّد خرجت قصيدتُه هذراً لا حضورَ له، أمّا الصحيح فهو أن يعترفَ الشاعرُ الأصيل الموهوب بقواعد لغتِه وأصولِها، وبمبادىء الأساليب الشعرية المتأثرة بهذه اللغة والمتوارثة في تاريخها الأدبي، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدراً كافياً من الحرية لتطويع هذه القواعد والأساليب ونفخ شخصيته فيها.
وفي هذا يهتدي الشاعر بملَكة الشعور(القويّة عند الشاعر الأصيل الموهوب) بما هو خطأ أو صواب في هذا التعبير أو ذاك، فملَكة «الشعور» لا ملَكة العقل، هي التي تسدّد خطى الشاعر خلال عمليّة الخَلق في اختيار الألفاظ والصِيغ التعبيريّة الملائمة، وهي التي تنبّهه في حال تجاوزه حدودَ حرّيته في التطويع، لئلّا تنكسر الأداة فلا تصلح صلةً بينه وبين الآخرين، فما نفع القصيدة؟ بل أيّ كلام، لولا هذه الصلة؟ أيْ لولا حاجة الشاعر الجوهريّة إلى الإتّحاد بالآخرين.
وعلى الشاعر، إذن أن يقنع بربح القليل هنا، وخسارة القليل هناك -أي أنْ يساوم- في صراعِه مع تقاليد اللغة والأسلوب، فاللغة نظام يعتمد، ككل نظام، على بعض القواعد والأصول التي لا غنىً عنها.
وإخضاع المعنى العفوي الغامض الخام لهذه القواعد والأصول أمرٌ محتَّم لتوضيح ماهيّته، وهذا يصحّ كذلك على الأسلوب، فالأسلوب، هو الآخر، نظام قائم على بعض الأسس المحتّمة، وإخضاع المبنى له يفصل الشعر عن بقيّة أنواع الكلام، مع العلم أن الأسلوب هو في الواقع قوالب مصطنعة تحتضن القصيدة وتعزلها مؤقتاً عن الحياة، لتتيح للشاعر أن يخلقَ لها حياة خاصّة بها، وفي حين أنّ بعضَ التمسّك بقواعد اللغة وأصولها متطلَب من جميع أنواع الكلام، فإنّ التمسك أيضاً، ولو جزئيّاً، بأحكام الأسلوب الشعري المتوارث هو الذي يجعل الكلام شعراً، بل هو الذي يحوّل التمسّك بقواعد اللغة وأصولها إلى شيء يتيح للشعر على يد الشاعر المبدع أن يصبح أكثرَ من مجرّد تعبير مألوف.
هكذا نرى أنَ ما دفعَ الشاعر إلى الخلق يجب أن يجتاز عمليّة صراعية مع اللغة والأسلوب قبل أن يخرج إلى حيّز الوجود شعراً سويّاً لا كلام فلسفة أو علم، وعلى الشاعر في هذا الصراع أن يخرج سيّداً منتصراً على حدود اللغة والأسلوب المتوارث معاً، وكلّما احتدم الصراع نمت الفكرة البدائيّة الغامضة في الدقّة والعمق، وعظم الإنتصار، نكرّر: أن الشاعر، وهو في عمليّة الخَلق، يكتشف ما دفعه إلى الخَلق. وهو مع كلّ خطوة يحلّ مشكلةً ليجابهَ أخرى في ما يكتشفه من خليقته، فلا ينتهي من القصيدة إلّا بعد أن يدرك تمام الإدراك ما كان يحبل به عند البدء بها، وبقدر ما يكون الشاعر أصيلاً، يكون علمه بأنّ ما كانت عليه فكرته عند البدء هي غير ما صارت إليه عند الانتهاء، أين إذن فرديّة الشاعر وفرادة عمله، إذا كان رازحاً بهذا القدر تحت عبئين آليّين خارجيّين: اللغة والأسلوب؟
الجواب هو أنّ فرديّةَ الشاعر وفرادة عمله ممكنتان، بل إنهما لا توجدان، إلّا ضمن هذين العبئَين، فحين نقول بالفرديّة والفرادة، إنّما نقول ذلك بالقياس إلى شيءٍ آخر، وهذا الشيء هو الموجود والمسبوق إليه: اللغة وكذلك الطريقة، فما في قدرة كلّ شاعر على أنْ ينشيءَ لغةً جديدة في التعبير الفنّي بهذه اللغة، ولكن في قدرته -وبهذا يمتحن- أن يتناول اللغة الكائنة والطريقة المتوارثة ويرغمهما على التفاعل -كمبنى- مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته، فالأصول عامّة، وأمّا الفروع وثمار هذه الفروع فهي الفرديّة والفرادة.
فالتمرّد لا يكون في العرض والشكل، بل في الجوهر والكُنه أو لا يكون، والمتمرّد الحقيقي، حين يستهدف اللغة والطريقة، يستهدف اكتشاف الألفاظ والمبنى المطلق الذي يجب أن تتخذه هذه القصيدة ذاتها، فهو يقسو على الشيء لا لإزالته، بل لتمجيده، وهو في ما يتعلق باللغة ينزل بها الأذى ليعزّزها ويقوّيها ويمتحن قدرتها الفائقة على التعبير، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأسلوب.
إذن، فكل قصيدة ناجحة لا تكون إضافةً على التراث الشعري فقط، بل تغيير لغويّ وشِعريّ لهذا التراث.
– 2 –
القيَم إمّا مخلوقة أو مكتشَفة، جيّدة أو رديئة، والقيَم المخلوقة، كالقصيدة مثلاً، تتميّز عن التجربة التي أدّت إلى خلقها، وهي لا تخضع للحكم الموضوعي، بل لحكم مزيج من الموضوعيّة والذاتية، فحين نتناول العمل الفنّي، نتناوله من ناحيتين: الناحية الموضوعية، أي من حيث هو عمل فنّي خاضع لشروطه، والناحية الذاتيّة، أي من حيث كونه يروق أو لا يروق لنا.
فما هي شروط العمل الفني؟ أو على الأخصّ، ما هي شروط القصيدة عندما تنتقل من الصيرورة إلى الكينونة؟
من كلامنا على عملية الخَلق الشعري، تبيّن لنا أنَّ القصيدةَ خليقةٌ عضويّة، لذلك فهي لا تستند في قيمتها إلّا إلى النظام الشكلي الذي هو إيّاها، فتجربة الشاعر، أي معنى القصيدة، هو فعل إنشاء القصيدة، وإذا صحَّ هذا القول، وهو صحيح، فإنَّ الزعمَ بأن القاريء يشارك الشاعر في التجربة- القصيدة، زعم باطل، وكذلك الزعم بإمكان ترجمة القصيدة إلى لغة أخرى من دون أن تفقد كثيراً من وجودها، أو بإمكان تحليل محتواها أو سرده نثراً من دون أن تفقد كثيراً من هذا المحتوى.
والقصيدة كذلك، بناء موضوعي ذو معنىً ينعم بوجودٍ خاصّ به، وهذا البناء يتميّز بالتضمين وتلاقي الأضداد والتلميح، فبالتضمين تكتسب القصيدة الجِدّةَ والطرافة وتعالج القضايا في ضوء تعقيداتها الحقيقيّة، وبتلاقي الأضداد تكتسب القصيدة التوتّر والزخم وترتفع عن مَساق الكلام العادي، وبالتلميح تكتسب القصيدة الضبابيّة والسريّة اللتين تثيران في القارىء حبَّ الإستطلاع والتشوّق والتحدّي والمغامرة في المجهول.
وحجارة هذا البناء الموضوعي، الألفاظ، إلّا أنَّ الألفاظَ في الشعر توميء إلى ما وراء المعاني، فتضاف إليها أبعادٌ جديدة، وبذاك تتجدّد وتحيا، وبغير ذلك تذبل وتموت، ولذلك كان الشعرُ ماءَ حياةِ اللغة، وكانت اللغة في معنى الشعر لا في مبناه فقط.
هذه الألفاظ تتركّب في البناء الشعري على غير ما تتركّب في النثر، بل إنَّ الشعرَ من شأنه أن يمنعَ الألفاظ من أن تتصرّف تصرّفها في النثر، أي أن تفرغ معانيها مباشرة بلزوم جانب الوضوح والخلوّ من التكثّف والتعقيد، ولذلك كانت العبارة الشعرية هي العبارة التي تتجنّب تقريرَ حقيقةٍ مجرَّدة في الذهن.
ثمّ أن النظر إلى القصيدة، كبناء عضوي وموضوعي، يفرض كونها كياناً مستقلاً ذا قيمة جمالية وحضور فريد، وهذا يعني إعلانَها عن نفسها بأنّها فوق المقارَنة مع ما سبقها من الآثار الشعريّة، وأنها فوق متناول شرح الناقد، فهي بهذا منفصلة عن التاريخ الأدبي، فضلاً عن النقد الأدبي، ولكن بإمكان القارىء (والناقد) أن يعيد خلق القصيدة لنفسه، وأن يدخل حرَمَها عن طريق النقص الذي لا بدَّ من أن تشكو منه كلّ قصيدة، فليس من عملٍ فنّي كامل تمام الكمال، ولذلك يخشى دائما أبداً على القصيدة من أن تصبح ضحيّة الشرح والتشريح، فتتهدّد حصانة كونها تعبيراً متميّزاً عن سواه من التعابير، فما القصيدة واقعة حال، أو سرد للهموم العاطفيّة، أو نظم للأفكار مباشرة أو مداورة، ذلك لأنّها لا تكون كلّ التجربة التي عاناها الشاعر، بل أقلّ ما يصلح منها جماليّاً لتكوين القصيدة، وهذا يفسّر معنى أنَّ القصيدة في نموِّها العضوي خلال عملية الخَلق تقبض على الجانب الأعمق من التجربة دون سائر الجوانب، أو بتعبيرٍ آخر تبلور التجربة وتصفّيها في خلاصة ذات محور واحد تتفرّع منه جوانب القصيدة وأبعادها، فمن معايب القصيدة العربية، قديمها وحديثها، أنّ لها محاور عديدة تتفرّع فيها جوانب وأبعاد عديدة، بحيث تفقد عضويّتها وموضوعيّتها وتصير بضع قصائد زائفة في قصيدة واحدة أشدّ زيفاً، ومرَدّ هذه المعايب إلى أنَّ الشاعرَ العربيّ حتى هذا التاريخ ورغم نشوء نهضة تدعو إلى المفهوم الحديث للشعر، ما يزال يهبط من فوق، من الكُلّي والشامل، وهذا من شأن العقل الفلسفي والعلمي، إلى الجزئي والخاص، وهما من شأن المُخيّلة الفنّية والشعريّة، فلا عجب أن يكون شعرنا العربي تعبيراً مباشراً عن الخوارق والآراء والأفكار، وبناءً فنّيّاً ننفذ منه إلى هذه جميعاً، ولا بدّ من القول هنا باختصار أنَّ هذه النقيصة في شعرنا العربي وجدت ما يخفِّف من شرِّها في كون القصيدة العربية القديمة لا وجودَ لها، وإنّما الوجود كلّه للبيت الواحد، فإذا اعتبرناه هو القصيدة بمعناها الحديث، عثرنا فيه على كثير من خصائصها، كوجود هذا المحور الذي تحدّثنا عنه، ومن أسف أنَّ معظم الذين تعلّقوا بقطار النهضة الشعريّة العربيّة الأخيرة، حطّموا عضويّة البيت العربي الذي هو القصيدة (أو نواتها) في المفهوم الحديث، من دون أن يتوفّقوا إلى خلق القصيدة العربية بمفهومنا هذا، ولعلَّ هذه القضيّة هي من أعوص هموم المعنيّين بنهضة الشعر العربي اليوم، ولا بدَّ يوماً ما، من محاولة اختيار النماذج القليلة الناجحة في الشعر العربي الحديث ونشرها على حدة.
يجابه الشعر الحياةَ بكامل وجودها، وبذلك يعطينا نوعاً من المعرفة يعجز عنه العلم أو الفلسفة- أعني تلك المعرفة التي لا تتعالى ولا تتجرّد من عالم الخبرة المحسوس، فهو يصفّي خبرتنا ويبلورها ويجعل متشابكاتها أكثر معنىً في الشعر منها في الحياة، حتّى ليمكن القول أنَّ الشعرَ يساوي الحياة مع «شيء آخر»، هذا «الشيء الآخر» ينفرد الشعر بإعطائه، وهو الجزئي صار بالكلمة كليّاً وحلَّ بيننا، فالعلم والفلسفة يجرِّدان الخبرة في نظريّاتٍ كليّة مستندة إلى منطق العقل.
وهما، حين يعبّران عن هذه النظريات بالكلمة، إنّما يتوسّلانها كأداة، أمّا الشعر فلا يجرّد الخبرةَ بل ينظمها في دفقها وانسيابها الأوّل استناداً لا إلى منطق العقل، بل إلى عفويّة الكلمة المتعدِّدة الوجود فيعطيها شكلاً ويرفعها إلى مصافّ الرؤيا.
وينمو مبنى القصيدة الخارجي، كما قلنا، مع نموِّ المعنى، أي يتطوّر إلى التكوّن بتطور المعنى، ولذلك كان المبنى الخارجي والمعنى الداخلي واحداً، بمعنى ولادتهما في عمليّة الخَلق معاً، وهذا ما عناه كوليردج حين قال: «كما تكون الحياة، كذلك يكون المبنى».
ولذلك تتنوّع المباني الشعريّة بتنوّع معانيها، وهو أمر فريد ينطوي على تكيّف مُعيّن للغرض الخاص بكل قصيدة، وهي فرادة يحقّقها الشاعر بتطويع، لا بتهديم، الأساليب اللغويّة العاديّة المألوفة في التراث الأدبي، ويحدث هذا التطويع من دون أن يظهر في القصيدة الناجحة، بل من دون أن يعلّق نفسه للشاعر إلّا بعد حدوثه.
التتمة في العدد القادم
Leave a Reply