بقلم: الراحل الكبير يوسف الخال
-3-
هل للشعر مهمّة، وما هي؟ أهي أخلاقية، أم اجتماعيّة، أم سياسيّة، أم دينية؟ وبتعبيرٍ آخر، هل مهمّة الشعر، المعرفة؟
هنالك في تاريخ نقد الشعر أربعة مواقف رئيسيّة معروفة، أوّلها الموقف الإفلاطوني الذي يزعم أنَّ الشاعر، بصدد الحقائق الكليّة، كاذب، فهو، كمحاكٍ للمحاكاة الأرضية لهذه الحقائق، بعيدٌ عنها، وهو يعني بإثارة العواطف الحماسيّة عند الناس، فلا يرتبط بمسؤولية إزاء أية حقيقة قد يعرفها، وإذا كان للشعر مهمّة فهي يجب أن تكون الكشف عن الحقيقة ونقلها، وبما أنّ الشعرَ عاجز عن ذلك، اقتضى إنزال اللعنة به وطرده من «الجمهورية».
والموقف الثاني يوافق أفلاطون على أن مهمّة الشعر يجب أن تكون المعرفة، إلّا أنه، بخلاف إفلاطون وأتباعه، يدّعي أنّ الشعرَ قادر على أداء هذه المهمّة، فما الشعر أفضل من التاريخ فقط، كما يقول أرسطو، بل هو أفضل من الفلسفة أيضا، فالتاريخ لا يصف إلّا الجزئيّات، ولا يعطينا الحقائق الكليّة أو يعلمنا كيف نتصرف، أمّا الفلسفة فتعطينا هذه الحقائق وتعلمنا كيفيّة التصرّف، غير أنَّ تعابيرها من التعميم بحيث نعجز عن تطبيق حقائقها ومدركاتها على مسألةٍ ما بعينها، وأمّا الشعر فيمتاز على التاريخ بأنّه يخبرنا كيف يجب أن تكون الحياة، ويمتاز على الفلسفة بأنّه يعطينا المثال الخاص ذاته، فالشعر، إذن، يجمع بين الخاص والعام، أو بين الجزئي والكلّي، وهو قائم على التشبيه، وحجّته بالمثال لا بالمنطق المجرَّد.
أما الموقف الثالث فيوافق إفلاطون على عجز الشعر عن إدراك الحقائق النظريّة، إلّا أنه لا يرى لماذا يجب أن يعني الشعر بذلك، وهو من شأن العلم والفلسفة، فمهمّة الشعر إثارة اللذّة الفنيّة، وإذا كان لا يخاطب عقولنا، فلأنّه يخاطب عواطفنا، فلا عجب أن يحصر دعاة هذا الموقف اهتمامَهم بالمبنى دون المعنى، ذلك أنّ ما يلذّ العواطف هو في الأكثر صفات خارجية للشعر، كموسيقى اللفظة وسحر البيان.
ولا عجب أيضاً أن يعرف هذا الموقف في القرن التاسع عشر بشعار «الفن للفن» الذي أطلقه غوتيه، ثم سادَ الحركةَ الرمزيّة الفرنسيّة والجماليّة الإنكليزية وتجاوز الشعر إلى الفنون الأخرى، وفي طليعتها الرسم.
وأما الموقف الرابع فيوافق كالموقف الثالث، إفلاطون على دعواه بأنّ الشعرَ غير قادر على معاينة الحقائق النظريّة، ولكنّه ينكر أن يكون على الشعر معاينة هذه الحقائق الأدنى قيمةً من حقائق أخرى تتكشّف، لا بالنظر العقلي، بل بالحدَس والمخيّلة، وهذا موقف رومانسي لا عقلاني ينهض على الإيمان بتفوّق قوى المخيّلة على قوى العقل، ولمّا كنّا لا نتوصّل إلى معرفة الحقيقة إلّا بالشعر أو سواه من الفنون، كان الشعر أهمَّ نشاطٍ معرفيّ للإنسان، فنجد أولى التلميحات إلى ذلك عند إفلاطون نفسه في كتابه «أيون» حين وصف الشاعر بأنّه إلهيُّ الإلهام ومأخوذ، وبأنَّ الآلهة اختارته لإدراك أسمى الحقائق بالحدَس، فكان أنْ تطوّر هذا الوصف عبر العصور في عدّة نظريّات، إلى أنْ قُيِّضَ له في المثاليّة الألمانيّة نظام فلسفي محكم أدّى إلى نشوء الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر، فزعم «شلنغ»، وبه تأثّر «كوليردج» في صياغة نظرته الرومانسيّة إلى الشعر، أن بإمكانه إسناد هذه القدرة المعرفيّة إلى المخيّلة، شرط أن يعتبر الكون وحدانيّاً، جوهره الإلهي كامن في كلّ جزئيّاته، فإذا كان الكلّ في الجزء ولا يوجد إلّا فيه، فإنّنا لا نتمكّن من إدراك الكلّ إلّا من خلال الجزء، وهو أمرٌ متعذّر على العقل، ذلك لأنّه عاجزٌ إزاء الجزئي والخاص، وما لمنطق العقل أن يمتحن ما تدركه المخيّلة بالحدَس، لأنّه أدنى منها وسيلةً، فهي تخلق الفن، حين تقبض على الجزئي وتنفذ منه إلى الجوهر الكامن فيه، ولذلك كانت الحقيقة التي يكشف عنها الشعر هي وحدها الحقيقة، فالحقيقة تأتي بالحدَس أو لا تأتي.
فما هو تقييمنا لهذه المواقف؟ الموقف الأوّل لا يعنينا هنا، ذلك لأنه لا ينهض على أساس، بدليل أنَّ الشعر لو أعوزته القدرة على البقاء لزال منذ أمدٍ بعيد، وأمّا المواقف الثلاثة الأخرى، فنبدأ بمعالجة نظريّة «الفن للفن» وكون مهمّة الشعر إثارة اللذّة الفنية في القاريء، فنتساءل لماذا كثر أتباع هذا الإتّجاه في القرن التاسع عشر لا قبله؟ والجواب هو أنّ العلم منذ مطلع النهضة أخذ يحتلّ القطاعات التي كانت تحسب حتّى ذلك الحين وقفاً على المعارف الأخرى، فأثبت بتقدّمه وتحسين أداته أنّه يأتي بنتائج أكثر دقّةً ممّا تحلم بها تلك، ثم جاء اليوم الذي أصبح فيها العلم طاغية يدّعي لنفسه القدرةَ على كلِّ شيء، فأعاد عابدوه تعريف الحقيقة ليجعلوه السبيلَ الوحيد إلى إدراكها، وهكذا حلَّ المختبر محلَّ المنطق العقلي والحدَس جميعاً، فوجد الشعر (والفلسفة كذلك) نفسه مدافعاً عن حياته، وظهره إلى الحائط، وهو في يأسه من الفوز تنازل عن دعواه بأنّه يعني بالمعرفة إطلاقاً، وأصرَّ على أنّ له مهمّة لا شأن للعلم بها -مهمّة تبرِّر وجوده- وهي إثارة اللذّة الجمالية.
وهكذا أسند دعاة الشعر الخالص إلى الشعر مهمّة على هامش حاجة الإنسان الجدّية وسعيه نحو حياة أفضل، ذلك أنّ اللذّةَ أمرٌ ذاتي، أي أنّها تتمّ بمعزل عن الشيء الذي يثيرها، فيستحيل التمييز بوضوح بين أنواعها، فما يثيره الشعر من لذّة يثيره سواه، فحقَّ لنا والحالة هذه أن نختار الشعر وسواه وفقاً لرغائبنا، فكان أن مجرد حريتنا في هذا الإختيار جعل الشعر غير ضروري وغير واجب الوجود، بالإضافة إلى الإزدواجيّة التي عزّزتها هذه النظريّة بين المبنى والمعنى بتشديدها على جماليّة المبنى في اللفظة والتركيب والوقْع، ففي كلامنا على عمليّة الخلق الشعري وعلى ماهيّة القصيدة عرفنا كيف يتعذّر على الشاعر، سواء في حالة خَلق القصيدة (صيرورتها) أو بعد خلقها (كينونتها) أن يفصل بين ما أراد أن يقولَه وبين ما قاله بالفعل، مما ينفي وجود أيّة ازدواجية بين فكرة القصيدة (معناها) وبين وجودها (مبناها)، ويثبت كون القصيدة قصيدة، لا بفضل مبناها على حِدة أو معناها على حدة، بل بفضل الإثنين معاً كوحدة عضويّة لا تتجزّأ.
فهل كان للشعر في تلك المرحلة مخرج آخر غير ادّعاء التفرّد بهذه المهمّة التي لا يصلح لها العلم فلا يستطيع أن ينتزعها لنفسه؟ أمّا رأينا كيف ادّعى الشعر القدرة على معرفة الحقيقة فحصر مهمّته بها؟ غير أنّ النزعة العلميّة ذاتها برهنت على بطلان هذا الإدّعاء، وحسناً فعلت، ذلك أن مهمّة المعرفة لا فرادةَ لها، فلا شأن لها في تبرير وجود الشعر إلى جانب العلم والفلسفة، فهي تعني أنَّ الشعرَ موجود قبل كلّ شيء لأداء «رسالة»، وبذلك تفصل معنى الشعر عن مبناه بغلاف خارجي برّاق، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا القصيدة؟ لماذا لا نعطي هذه «الرسالة» مباشرة، بدل أن نلجأ إلى حِيل اللغة وألاعيبها؟.
وأمّا الموقف الرابع، أي النزعة الرومانسيّة، فلا بأس بمحاولتها إعطاء الشعر دوراً فريداً، وذلك بنكرانها قيمة المعرفة العقلانيّة وتأكيدها على المعرفة الحدسيّة أو المخيلتيّة، ولكن هل إدراك المعرفة الحدسيّة أو المخيلتية يتفرّد به الشعر بالفعل؟ ألا يمكن صياغة هذا النوع من المعرفة بغير أسلوب الشعر؟ وإذا كانت مهمّة الشعر هي إدراك هذا النوع من المعرفة، كان هذا الإدراك أهمّ من صياغته، والدليل على ذلك انصراف الرومانسيين إلى المعنى دون المبنى، فوقعوا في الإزدواجيّة كما وقع دعاة الشعر الخالص ونظرتهم الجمالية، إلّا أن وقوع هؤلاء الرومانسيين كان أعظم من وقوع أولئك، نظراً إلى مثاليّتهم التي أدّت بهم إلى إضعاف الصلة بين قوّة الشاعر الخلّاقة ومادّة خلقه اللغة.
وبذلك أصبح الشعر وسيلةً من وسائل التعبير عن الرؤيا، لا الوسيلة الفريدة، وهي نتيجة انتهوا إليها بعكس ما كانوا يريدون. وفي ضوء هذه المواقف الأربعة نرى موقفاً خامساً ينطلق من الموقف الرابع الذي هو أقرب المواقف إلى الصواب، موقفاً يوحّد نظرته إلى المخيّلة الخلّاقة معترفاً بدور اللغة في عملية الخَلق، وبذلك تصبح القصيدة وليدة مخيّلة خلّاقة لا تعمل عملها إلّا بوساطة اللغة، فتلغي كلَّ ازدواجيّة ويبدأ الشعر أكثر من أيِّ وقتٍ مضى باحتلال مكانته الفريدة كجهدٍ إنسانيّ ضروري واجب الوجود.
المصدر: مجلة شعر ع/27 صيف 1963
Leave a Reply