د. كلوفيس مقصود
يبدو أن القرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي فـي ما يتعلق بالشروط التي تقضي بدمغ البضائع الإسرائيلية المنتجة فـي المستوطنات لمنع استيرادها، أغضبت إسرائيل، لأن هذا الإجراء ينطوي على رفض الأوروبيين الاستيطان الذي يطيح إمكانية قيام دولة فلسطين.
هذا بالإضافة إلى أنها تشكل خرقاً فاضحاً لقرارات الأمم المتحدة، لكونها غير قانونية وغير شرعية، إضافة إلى أنها تلغي احتمال سيادة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية، فمفهوم الاحتلال لا يسمح بتغيير معالم الأراضي المحتلة، حسب اتفاقية جنيف الرابعة، وإلا تحول ما سمي الاحتلال إلى اغتصاب الأرض. وهذا يعني أن الخرق الرئيسي يكمن، أيضاً، فـي أن البضائع المصنعة فـي المستوطنات يكتب عليها «صنع فـي إسرائيل»، ما يعني أن المستوطنات جزء من إسرائيل الكبرى، وليس لفلسطين الدولة المقبلة، والتي عاصمتها القدس الشرقية.
لذلك، الإجراء الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي هو تأكيد على أن ما ينتجه المستوطنون فـي المستوطنات ليس إلا خرقاً إسرائيلياً واضحاً لمفهوم الاحتلال، وبالتالي، تصبح المستوطنات دليلا على غزو أرض، وليس احتلالها.
كما أن أي تسليم لبضائع مستوردة من مستعمرات أو مستوطنات إسرائيلية يشكل سابقة خطيرة، تنطوي على التسليم بأن المستوطنات جزء من إسرائيل، ما يزرع بذور انعدام تحقيق حل الدولتين. من هنا، نجد أن البضائع المنتجة فـي المستوطنات تصمم على أن الإيحاء بأن المستوطنات جزء مكون لإسرائيل، وبالتالي، التدرج باتجاه إلغاء قيام الدولتين على أرض فلسطين.
وعليه، نجد أن حملة المقاطعة المعروفة باسم «بي دي أس» عمّت بسرعة فـي العالم وأنصار فلسطين، بل فـي جامعات وكليات أميركية عديدة، حيث يؤيد طلاب وأساتذة يهود كثيرون المقاطعة، كونها خياراً لاعنفـيا وأخلاقيا، ويتسم بالشرعية التي تحاول الحكومة الإسرائيلية الحالية، وأمثالها، مجابهتها والطعن بها. لذا، علينا، وعلى الدول المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، أخذ الإجراءات اللازمة والمشروعة، قبل أن يتحول الشطط الإسرائيلي الراهن إلى نمط متواصل بدون مواجهةٍ، أو مقاومةٍ، ليس فقط من الشعب الفلسطيني وأنصاره، بل أيضاً من المجتمع الدولي. فإذا بقي التصرف الإسرائيلي على حاله، كما يبدو، فهذا من شأنه ترسيخ الاعتقاد بأن اليمين الإسرائيلي، خصوصاً، سيتحدى المجتمع الدولي، ويضعه أمام أمر واقع يصعب بعد ذلك إزالته.
من هنا، علينا جميعاً أن نجعل من المقاطعة التي تقوم بها «بي دي أس» إحدى طلائع المقاومة الفلسطينية، وكذلك القرارات الأممية التي تدين ما يمكن تسميته الاغتصاب الذي يعمل على ترسيخ المستوطنات، وتوسيع رقعتها. وبالتالي، تعويد الأوروبيين والأسواق الدولية على أن هذا هو السائد فـي التعامل الاقتصادي والمالي مع العالم.
ومن شأن موقف الاتحاد الأوروبي، فـي هذا الصدد، والنمو المتواصل لحركة «بي دي أس»، كما صمود الشعب الفلسطيني وترجمة القرارات المتعلقة بحقوقه وجعلها نافذة؛ أن يردع تمادي إسرائيل فـي استباحة الحقوق الوطنية من جهة، والحيلولة خصوصاً من السلوك الإسرائيلي، لاسيما اليمين الحاكم الآن، أن يستأثر بحقوق فلسطين التاريخية، والطعن بحقوق الإنسان فـي فلسطين نفسها، كما الاستمرار، بصفاقة، فـي ربط الصناعة فـي المستوطنات، وتسويقها على أنها بضائع إسرائيلية الإنتاج، وبالتالي، تعزيز الاعتقاد بأن المستوطنات هي من إسرائيل.
إزاء التعقيدات المتتالية فـي الحالة الدولية الراهنة، لا مفر من أن ندرك الصعوبات التي من شأنها أن تواجه معالجة القضية الفلسطينية وسط المستجدات المتواصلة. وأن ندرك أيضاً أن جزءاً من معالجة قضية فلسطين يكمن فـي معالجة الأوضاع العربية عامة. من هنا، لا بد من البدء بإعادة النظر فـي التكيف مع المستجدات، وأن نكون على استعداد لاستيعابها، ثم توظيفها من أجل توفـير الظروف الملائمة التي من شأنها أن ترافق المتغيرات، وتخضعها لخدمة الثوابت التي تميز تاريخ القضية الفلسطينية، وتشجع على نقد الذات، فـي مسيرة كثيرة التعقيد، ومتنوعة العقبات.
المقاومة متعددة الأبعاد ضرورية ضد عدو غير مستعد للتفاوض، بهدف الوصول إلى حل عادل، لأنه يعتقد أنه ليس فـي صدد الرضوخ للشرعية، وأنه، كما يبدو، مصر على الإملاء. وبالتالي، فإن من شأن ما قام به الاتحاد الأوروبي من إجراءات صارمة فـي موضوع شهادة المنشأ أن يكون الخميرة لإزالة التشويه، واستقامة الحل العادل والشامل لفلسطين عربية، والذي يستعيد العالم من خلاله ضميره المغيّب.
Leave a Reply