منذ انطلاقها في بلدان الغرب عام 2005، نجحت «حركة مقاطعة إسرائيل» (بي دي أس) في إحراج النظام الإسرائيلي أكاديمياً وثقافياً وسياسياً، وإلى درجة ما اقتصادياً، ما دفع الكنيست الإسرائيلي في 2011 إلى إصدار «قانون منع الإضرار بدولة إسرائيل من خلال المقاطعة»، لتفادي الآثار المترتبة على اتساع حركة الـ«بي دي أس» واكتسابها الزخم في البلدان الغربية لاسيما الجامعات، وهو الذي اعتبرته دولة الاحتلال من أكبر «الأخطار الاستراتيجية» المحدقة بها.
وفي الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل في العالم، يسعى مشرعون محليون وفدراليون إلى سن قوانين مماثلة لكبح جماح حركة المقاطعة المتنامية بين الأوساط الطلابية والحقوقية في جميع أنحاء البلاد، لكن حماسة المشرعين المؤيدين لدولة الاحتلال، لم تمر بدون معارضة من المنظمات الحقوقية والمدنية في أميركا، وفي مقدمتها «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» (أي أس أل يو)، لاسيما بعد تقديم مشروع قانون في الكونغرس يحظر مقاطعة إسرائيل في مخالفة صريحة للتعديل الأول في الدستور الأميركي الذي يضمن كافة أشكال التعبير بما فيها المقاطعة.
تعديلات محدودة
بالتزامن مع قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، الذي أثار احتجاجات فلسطينية واسعة أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة الآلاف، كان أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يطلعون على مشروع قانون يقترح فرض عقوبات جنائية على الشركات والكيانات الأميركية المشاركة في «حملة مقاطعة إسرائيل».
وكان السناتور بنيامين كاردان (ديمقراطي–ماريلاند) قد تقدم في آذار (مارس) 2017، بمشروع «قانون مكافحة مقاطعة إسرائيل» المعدل عن «قانون إدارة التصدير لعام 1979» (إي أي أي)، والذي حظر على الشركات الأميركية إبرام العقود مع الحكومات الأجنبية التي تقاطع الدول الحليفة للولايات المتحدة.
ويدعو مشروع القانون إلى حظر مقاطعة إسرائيل من قبل المنظمات الحكومية والمتعاقدين معها، وتوجيه «بنك الاستيراد والتصدير» الفدرالي لمكافحة المقاطعة التجارية للدولة العبرية، تحت طائلة الملاحقة القانونية فدرالياً.
وتمت إعادة النظر في صيغة مشروع القانون المقدم في مجلس الشيوخ، استجابة لضغوط المدافعين عن حرية التعبير. وتهدف التحديثات التي أدخلها السناتوران بنيامين كاردان وبوب بورتمان (جمهوري–أوهايو) إلى ضمان حرية التعبير وحذف مواد من القانون حول عقوبة المخالفين الذين قد يواجهون السجن بحسب الصيغة الأولية، والاكتفاء بمعاقبتهم بغرامات مالية.
وفي بيانين منفصلين، عبر السناتوران كاردان وبورتمان عن ثقتهما في أن مشروع القانون «يؤيد حقوق الأفراد الأميركيين، ويوضح التشريعات التي مضى على سنها عقود من الزمن»، وأنه «يحقق التوازن الصحيح بين حماية الشركات الأميركية وحلفائنا الإسرائيليين من الاستهداف الجائر من قبل المنظمات الدولية».
وفيما لا يزال المشروع قيد التداول في أروقة الكونغرس، أبدى 55 سناتوراً تأييدهم للصيغة الجديدة، بمن فيهم السناتور الديمقراطي عن ميشيغن غاري بيترز، الذي قال لـ«صدى الوطن» عبر البريد الإلكتروني، إنه ورغم دعمه للمشروع فهو يتمسك بحرية التعبير لاسيما في ظل «التحديات الخطيرة» التي تواجهها البلاد، مشيراً إلى أنه –قبل تأييد مشروع القانون– قد أخذ بعين الاعتبار مخاوف قادة المجتمع وهواجسهم من المقترح.
وقال «لقد كنت متشجعاً (على التوقيع) لأن التشريعات قد تم تعديلها لتكون أوضح»، مؤكداً أنه «لا ينبغي تفسير أي شيء في نص القانون على أنه انتهاك لحقوق الأميركيين المكفولة دستورياً»، وأوضح أن التشريع ببساطة يحمي الشركات التجارية التي قد تتعرض للضغوط من قبل المنظمات الدولية أو الدول الأجنبية لإرغامها على مقاطعة إسرائيل.
معارضة تشريعية وحقوقية
في المقابل، يعبر مسؤولون منتخبون وناشطون حقوقيون عن معارضتهم لمشروع «قانون مكافحة مقاطعة إسرائيل» باعتباره انتهاكاً صارخاً للحقوق المدنية المحصنة دستورياً من خلال تجريم مبدأ المقاطعة التي يضمنها قرار المحكمة الدستورية العليا في حماية مقاطعة السود للأعمال التجارية المملوكة من قبل البيض في ستينيات القرن الماضي بولاية ميسيسبي.
زميلة بيترز الديمقراطية عن ميشيغن في مجلس الشيوخ الأميركي، السناتور ديبي ستابينو، كانت قد أفادت في مقابلة أجرتها معها «صدى الوطن» –الشهر الماضي– بأنها لم توقع على مشروع القانون بصيغته الأولية، لكونها قد شعرت بأنه ينتهك الحقوق المكفولة بموجب التعديل الأول من الدستور الأميركي، مؤكدة أن مشروع القانون «لم يُكتب بالطريقة التي تدفعها إلى التوقيع عليه».
وفي السياق، انتقدت ستابينو، التي تسعى لإعادة انتخابها هذا الخريف، إدارة الرئيس دونالد ترامب وقراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، لافتة إلى أنه كان يتوجب على الرئيس الأخذ بالنصائح التي أشارت عليه بعدم الإقدام على هذه الخطوة.
وعلى الرغم من ذلك، كانت السناتور الديمقراطية قد وقعت على قرارت تؤيد استمرار دعم الولايات المتحدة لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية، بما فيها القرارات التي تحافظ على أنظمة الدفاع الإسرائيلية والقرارات التي تعارض عودة إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
مجلس النواب
في السياق، تقدم النائب الجمهوري بيتر روسكام (جمهوري–إلينوي) إلى مجلس النواب الأميركي بمشروع قانون مماثل.
ومبدئياً، يحظى المقترح النيابي رقم 1697 –الذي مايزال ينتظر التصويت عليه– بدعم 287 نائباً أميركياً بينهم 9 من ميشيغن هم: الجمهوريون مايك بيشوب، تيم والبرغ، ديفيد تروت، بول ميتشل، فريد أبتون، جاك بيرغمان، بيل هوزينغا، وجون مولينار، إضافة إلى النائب الديمقراطي ساندر ليفن.
في حين امتنع إلى الآن، أربعة نواب أميركيين من ميشيغن، عن دعم المشروع، وهم الديمقراطيون ديبي دينغل وبرندا لورنس ودان كيلدي، والنائب الجمهوري –الفلسطيني الأصل– جاستن عماش.
وانتقدت النائبة دينغل، دعم زملائها في مجلس النواب لمشروع القانون، مؤكدة على حق الكيانات والشركات الأميركية في مقاطعة إسرائيل، وقالت «إن حرية التعبير هي دعامة أساسية في دستورنا، والمقاطعة السياسية معترف بها على نطاق واسع بأنها محمية بموجب التعديل الأول».
وأعربت دينغل في حديث مع «صدى الوطن» عن مشاركتها قلق المنظمات الحقوقية وفي مقدمتها «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» حول أي تشريع من شأنه أن يملي على الأميركي النشاطات التي عليهم أن ينخرطوا فيها أو يحجموا عن المشاركة بها.
ويذكر أنه لم يتم الإعلان بعد، عن موعد طرح مشروع القانون للتصويت في مجلسي النواب والشيوخ، أو إذا كان سيتم تأجيل المقترح إلى ما بعد الانتخابات التشريعية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) القادم.
على مستوى الولايات
لم تقتصر الجهود الرامية لمكافحة «حملة مقاطعة إسرائيل» على المستوى الفدرالي، وإنما سبقتها إلى المستويات المحلية، حيث قامت مؤخراً عدة ولايات أميركية بسنّ مشاريع قوانين مماثلة لتصبح تشريعات ملزمة في تلك الولايات.
ففي كانون الثاني (يناير) الماضي، وقع حاكم ميشيغن ريك سنايدر على قانونين يحظران جميع الوكالات في الولاية من إبرام عقود أو توظيف اشخاص «ما لم يتضمن العقد تصريحاً من أن الشخص غير منخرط في مقاطعة شخص يعمل مع شريك استراتيجي، والتصريح كذلك بأنه لا ينخرط في ذلك مستقبلاً».
ويهدف القانونان –بحسب رعاتهما– إلى حماية اقتصاد ميشيغن من الآثار المالية المدمرة الناتجة عن مقاطعة إسرائيل التي لديها علاقات تجارية معها بعشرات ملايين الدولارات سنوياً، وتشمل القطاعات التجارية البحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا والدفاع والعلوم الصحية.
وفي أيار (مايو) الماضي، أصدر حاكم ولاية لويزيانا أمراً تنفيذياً مناهضاُ لـ«حركة مقاطعة إسرائيل»، وكذلك أقرت ولاية أوهايو قانوناً مماثلاً في كانون الثاني (ديسمبر) بعد صدور قوانين مشابهة في ولاية بنسلفانيا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وحدث الأمر نفسه في ولايتي كاليفورنيا وتكساس في أيلول (سبتمبر) وفي نيوجزري في آب (أغسطس) وفي رود آيلاند في حزيران (يونيو) من العام الماضي. وفي وقت سابق من هذا الشهر، صوت مجلس شيوخ ولاية نيويورك لمنع وكالات الولاية وشركاتها ومتعاقديها من مقاطعة إسرائيل.
ووصف العضو العربي في مجلس نواب ميشيغن، النائب عبدالله حمود (ديمقراطي–ديربورن)، القوانين التي تمنع الأفراد من الاحتجاج السلمي بـ«التعدي السافر» على التعديل الأول، وقال «هذا الأمر لا يتعلق بفلسطين، إنه يتعلق بحق الاحتجاج السلمي من خلال حركة مقاطعة إسرائيل»، منتقداً المشرعين لإعطاء الأولوية لحماية الأرباح التجارية بدلاً من حماية الحقوق الدستورية للأميركيين.
وتعتبر ميشيغن ثالث أكبر موطن للعرب الأميركيين في الولايات المتحدة وفقاً لإحصاء 2010، والكثيرون منهم جاؤوا من بلدان تعرضت لمختلف أنواع العدوان الإسرائيلي، بما فيها الحروب والاعتداءات العسكرية.
تحديات قانونية
وعلى الرغم من الجهود التشريعية إلى قمع حملة مقاطعة إسرائيل، إلا أن تحدي دستورية تلك القوانين مايزال بطيئاً نسبياً في المحاكم الأميركية من قبل المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية»، الذي نجح في ولاية كنساس في نيل مساندة محكمة فدرالية بدعوى قضائية ضد حكومة الولاية التي أصدرت قانوناً يحتم على المتعاقدين التصريح بأنهم لا يشاركون في مقاطعة إسرائيل. وكانت الدعوى قد طالبت بضمان حق مدرب للمعلمين يعمل في برنامج شراكة مع مديرية التربية بولاية كنساس، وكان المدرب –وهو راع لإحدى الكنائس» قد دعا إلى المقاطعة التجارية والاستثمارية لإسرائيل.
وأكد نائب المدير القانوني في «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» دان كوربكين على أن منظمته الحقوقية ملتزمة بمكافحة القوانين التي تفتح «صندوق باندورا» لانتهاك التعديل الأول. وأضاف في حديث مع «صدى الوطن»: «بغض النظر عن رأيك بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. هنالك أمر واحد واضح: التعديل الأول يحمي الحق بالمشاركة في المقاطعة السياسية»، لافتاً إلى أن نشاطات المقاطعة شكلت بعضاً من «لحظات الفخر بالتغيير الاجتماعي في بلادنا.. منذ المقاطعة الشهيرة لحافلة مونتغمري في خمسينيات القرن الماضي إلى المقاطعة المناهضة لنظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا في الثمانينيات». وأكد على أن «التشريعات المكافحة للمقاطعة تهدد الحريات الأساسية للتعديل الأول ويجب عدم سنها».
ومع حرص غالبية المشرعين على حماية المصالح الأميركية مع إسرائيل، فإن المنظمات الحقوقية والمدنية ترى في أصوات المواطنين الأميركيين العاديين جبهة قوية في معركة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
وبدلاً من الاعتماد على مواجهة اللوبي المؤيد لإسرائيل والمتجذر في ملعبه بواشنطن، ازدهرت نشاطات «بي دي أس» من خلال الجهود الفردية الجماعية لطلاب الكليات والجامعات وأفراد المجتمعات، الذين ينشطون في حركة مقاطعة إسرائيل.
وبعض تلك الجهود تكللت بالنجاح، بينها جهود الحكومة الطلابية في «جامعة ميشيغن» التي أصدرت في نوفمبر الماضي قراراً يطالب بالجامعة بوقف استثماراتها مع الشركات التي تحقق أرباحاً من إسرائيل، مثل شركات «بوينغ» و«هيوليت–باكارد» و«يونايتد تكنولوجيز»، إلا أن الرغبة الطلابية اصطدمت بإدارة الجامعة التي لم تستجب لقرار المقاطعة في فروع الجامعة الثلاثة (آناربر وديربورن وفلنت).
وفي الشهر الماضي، أصدرت الحكومة الطلابية في «جامعة أوريغون» قراراً يطالب الجامعة بقطع العلاقات مع إسرائيل. وفي الأسبوع الماضي، دعا اتحاد طلابي يمثل 16 ألف طالب من «جامعة كاليفورنيا» إلى قطع العلاقات مع الشركات التي تشارك في «اضطهاد الفلسطينيين».
النضال مستمر
بلاين كولمان، أحد الناشطين المحليين المنضوين في نشاطات «مقاطعة إسرائيل» في مدينة آناربر منذ انطلاق حركة «بي دي أس»، أكد أنه يجب على الأميركيين الاستفادة من تجارب الفلسطينيين لإسماع أصواتهم، داعياً الناس إلى حضور اجتماعات المجالس البلدية في مدنهم للتعبير عن دعمهم لـ«بي دي أس» والتصدي لتجريم هذا النشاط الديمقراطي.
لأكثر من عقدين، كان كولمان مؤيداً للحقوق الفلسطينية، ومندداً بجرائم الاحتلال الإسرائيلي من خلال رفع الشعارات واللافتات في اجتماعات المجلس البلدي لمدينة آناربر.
وفي حديث مع «صدى الوطن»، قال: «لا يمكن لأي مجلس بلدي أن يمنعك من مناهضة إسرائيل.. فبموجب التعديل الأول لديك الحق بتقديم التماس إلى الحكومة للحصول عن تعويض عن المظالم».
وحث على حضور النشاطات العامة لإيصال قضية فلسطين، وقال «قم بالخطوات التي يمكنك من خلالها الحديث والتعبير عن موقفك.. اجلس في الصف الأمامي وارفع لافتات المقاطعة.. قد تضطر إلى الانتظار لعدة ساعات في اجتماعات المجلس البلدي لمدينة ديربورن لكن أعضاء المجلس سيرون لافتاتك.. وكذلك وسائل الإعلام.. بذلك تجعلهم يتذكرون عائلات ديربورن التي نزفت دماؤها جراء الرصاص والقنابل الإسرائيلية».
Leave a Reply