محمد العزير
نادرة هي الصدف التي تغير مجرى حياة إنسان وتنقله من عالم إلى آخر، وقليلة هي الفرص التي تكون في حدها الأقصى تحولاً جذرياً في مسيرة إنسان بكل وجوهها الشخصية والمهنية والاجتماعية والسياسية والمعرفية. أن تكون في طريق تلك الصدفة، أو أن تكون صاحب تلك الفرصة، تكون مديناً بحكايتهما ذات يوم، ليس فقط لسرد مراحل من حياتك، وانما ايضاً كتمرين ضروري لمعرفة الذات والموقع والدور. وأنا مدين لـ«صدى الوطن» بهذه الحكاية وهي تحتفل بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيسها وانطلاقتها في ظروف أقل ما يقال فيها أنها غير مؤاتية، لتصبح المنبر الإعلامي العربي الأميركي الأول في أميركا الشمالية بلا منازع.
الصدفة وحدها جمعتني مع المربي الأستاذ أركان السبلاني. كنت في زيارة صديقي الجنوبي علي حمية الذي كان يعمل أستاذاً في مدرسة الغزالي في حي السلم، في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي أصر على تعريفي بصاحب المدرسة ومديرها البعلبكي. كنتُ صحفياً في جريدة «السفير» وهو الأمر الذي لفت انتباه الأستاذ أركان الذي لم يتردد في سؤالي على الفور: هل تريد السفر إلى أميركا؟ كانت أميركا في تلك اللحظة آخر مكان في العالم يمكن أن أفكر بالسفر إليه، ناهيك عن الإقامة فيه. كانت أميركا في نظري، ككل أبناء جيلي وميولي، الشرّ المطلق.
انتبه «أبو علي ركان» إلى ذلك. قال انه لا يمازحني وان شيئاً ما يدفعه إلى الاعتقاد بأن وجودي في مكتبه في تلك اللحظة لن يكون عابراً: الأسبوع المقبل سيأتي شقيقي المهندس أسامة من أميركا ليبحث عن صحفي عربي يساعده في تحرير الصحيفة الأسبوعية التي يصدرها في ديترويت بولاية ميشيغن وانا أرى اسمك في «السفير» أحياناً، وأرى أن هذه الفرصة ستكون ممتازة لك، أنظر حولك، ألا تعتقد أن أي مكان في العالم أفضل من لبنان الآن؟ كان محقاً في الجزء الأخير على الأقل. كانت بيروت تتفتت تحت وطأة حروب الأشقاء والزواريب، وكانت الحرب على المخيمات الفلسطينية، بعد عودة القوات السورية إلى بيروت وانشقاق الجيش اللبناني وانهيار عهد أمين الجميل، تجعل كل الشعارات القومية والوطنية والتعبوية بلا معنى.
صبيحة اليوم التالي كنت في مركز المعلومات في «السفير» أبحث في خريطة أميركا عن ولاية اسمها ميشيغن وعن مدينة اسمها ديترويت. لم يتردد ناشر «السفير» ورئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان الذي منحني أول فرصة للعمل في الصحافة في تشجيعي على الذهاب. أنت تعرف الوضع هنا، قال بصوته الهادئ، وتعرف أن الأفضل لك شخصياً ألا تبقى في بيروت، إذا كان العرض جدياً لا تتردد وإن ذهبت لا تعد قبل أن تحصل على الجنسية الأميركية. كان العرض جدياً وكان أسامة السبلاني في مكاتب «السفير» بعد بضعة أيام. حدثني عن أرقام ومعلومات لم تكن تعني لي الكثير لأني لا أعرف عن أميركا شيئاً، ولا اعرف الإنكليزية أبداً، اتفقنا على ترتيبات التأشيرة وتذكرة السفر وودعني بابتسامة لم يتخل عنها حتى الآن قائلاً: أراك في ميشيغن بعد أسبوعين. لم تكن «صدى الوطن» أطفأت شمعتها الأولى عندما وصلت إلى مكاتبها في ديربورن لأنضم إلى فريق عمل من ثمانية أشخاص يحاول أن يصنع معجزة لا مطبوعة. كانت «صدى الوطن» الرد الذي أراده أسامة السبلاني ورفيقة دربه الراحلة كاي على الاجتياح الإسرائيلي للبنان قبل سنتين. اجتمع المهندس الموهوب بالترويج والعلاقات العامة مع الممرضة الأميركية الشقراء ذات الضمير الحي وقرّرا المغامرة بكل شيء بما فيه وظيفتهما المضمونتين لرفع صوت الحق العربي المهدور أميركياً والمهمل في الجالية.
لم يكن العمل في «صدى الوطن» يشبه الصحافة التي امتهنتها في لبنان، لأن «صدى الوطن» لم تكن صحيفة بالمعنى التقليدي إلّا في الشكل. صحيفة تتوجه إلى جالية منقسمة بين مهاجرين قدامى لم يعد بينهم وبين الوطن الأم أواصر قوية ولم يكن أولادهم يقرأون العربية، وبين مهاجرين حديثاً معظمهم من الأرياف يعملون في مصانع السيارات وتوابعها وفي الشركات الكبيرة التي تحتاج إلى يد عاملة غير مدربة. كان الرجال منشغلون بأعمالهم، وكانت نسبة كبيرة من النساء لا يجدن القراءة بالعربية أو الإنكليزية ولم تكن في الجالية سوق نشطة أو مؤسسات يمكن الاتكال عليها في الإعلان، ولم يكن النظر إلى الاشتراك في الصحيفة أكثر من نية للتبرع، علماً أن كلفة البريد كانت أكثر من قيمة الاشتراك.
الأوضاع السياسية المتضاربة في لبنان واليمن والعراق تزيد من أعباء القضية الأم؛ فلسطين ولا تساعدها، فيما حرب المخيمات والحرب العراقية الإيرانية المزمنة تحفران خطوط تماس جديدة داخل المجتمع العربي الأميركي المشتت، وكأن كل ذلك لا يكفي جاءت الهجمات على المصالح الأميركية وخطف الأجانب والطائرات في لبنان لتزيد الخوف من إعلان الهوية العربية الواقعة تحت مجهر مؤيدي إسرائيل ذوي النفوذ الهائل. في هذا المناخ كان على «صدى الوطن» أن تصنع قارئاً وسوقاً ومعلناً وداعماً، ولم يكن لها طرف تستند إليه أو مصدر تتمول منه. كان عليها أن ترد الطعنات الداخلية أيضاً ممن يقرأون خبراً لا يعجبهم ولا يعرفون ألفباء الصحافة، وكانت التهديدات أكثر غزارة من المبيعات. وليس من باب التملق لأسامة القول –وأنا الذي دخلت مضمار النشر لاحقاً عندما انتقلت إلى كاليفورنيا– إن الرأسمال الوحيد الذي كان لـ«صدى الوطن» في السنين العشر الأولى من مسيرتها هو إرادة أسامة السبلاني ورفيقته. كثيرة هي الحالات العجيبة التي واجهت هذه المسيرة، واحدٌ يأتي مهدداً لأن «صدى الوطن» كتبت رافضة زيارة كبير عملاء إسرائيل في جنوب لبنان عقل هاشم إلى ديربورن والسعي لتسليمه مفتاح المدينة باسم الجالية؛ مصادرة أعداد الصحيفة في مؤتمر لمؤسسة عربية أميركية تدافع عن الحقوق العربية لأن فيها انتقاد للمؤسسة، تكليف أشخاص بجمع نسخها من المحلات العربية ورميها لأن فيها مقالاً لم يعجب أحد النافذين، إلّا أن إحقر ما تعرضت له فكان قيام احد حديثي النعمة بشراء المبنى الذي كانت تستأجره الصحيفة ولم تكن قادرة على سداد إيجارها فقط ليقوم برمي أرشيف «صدى الوطن» انتقاماً من مواقفها، وهذا ما حصل فعلاً.
صمدت «صدى الوطن» وحققت هدفها بعد معاناة طويلة لتصبح لها مكانة في الجالية ولتكون لها كلمة مسموعة بالحد الأدنى، ونجح رهان أسامة السبلاني في إيجاد مطبوعة محترفة شكلت بالفعل مدرسة تخرج معظم من حاول طرق باب الصحافة العربية في ميشيغن. هذا لا يعني أن لسياسة الصحيفة وخصوصاً ما يتعلق بالشؤون العربية الكثير من المنتقدين، لكن يسجل لها أنها لا ترفض نشر أي رأي معارض يصلها، ومنها مقالاتي التي تنشر دون تغيير أو حذف أو تعديل، وكذلك لا يعني أن القوى الفاعلة في الجالية تتعاطى مع الصحيفة باحتراف، فلا زال البعض يعتبر أنها مكسر عصا أو أنها قابلة للحصار والتطويع إن اختلفت معهم أو أبدت رأياً في الانتخابات أو السياسة المحلية أو نبهت إلى مثالب ومشاكل في مؤسسات عريقة، وخصوصاً المؤسسات الدينية، كذلك لا يعني أنها معفاة من لغة التخوين والتكفير والتشهير، حتى أن البعض يستسهل تسليط ابواق وهواة عليها للتهويل، لكن الذي تجاوز محن الثمانينات ومفاجآت التسعينات والهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن والغزو الأميركي للعراق وما تبعه من أعاصير يمكنه الآن أن يطمئن إلى موقعه وموضعه ودوره في المجتمع العربي الأميركي.
أعود إلى الشخصي بإيجاز تقتضيه المساحة. في «صدى الوطن» تعرفت إلى شريكة حياتي الأولى التي فارقتنا مبكراً لينا سلامة أم ابنتي زينة وابني حسن، والتي كانت تعمل في مكاتب قريبة منا، وخلال عملي في «صدى الوطن» تعرفت إلى زوجتي جنيفر أم جنان ونادين وسحر. اختلفت مع أسامة في السياسة كثيراً، لكننا لم نختلف يوماً شخصياً، بقي صديقي حتى وأنا أنافسه لبضعة سنوات، وأبقى مديناً له وللزميلة الراحلة كاي السبلاني ما حييت، أقله لأنه منحني فرصة هائلة للخروج من خيمة الصوَر النمطية والتعرف على الفارق بين المعلن والخفي خصوصاً عند من يدعون الذود عن قضايا الحق. «صدى الوطن» تعني لي الكثير، فهي تؤرخ غربتي أو مواطنتي الجديدة بفارق سنة واحدة من الزمن.
Leave a Reply