المحكمة الدولية قد تستغرق وقتاً ليس بقليل لمعرفة الحقيقة وتحديد هوية المجرمين
بيروت –خمس سنوات مرت على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، دون أن تصدر بعد مضبطة اتهام بمرتكبي الجريمة، وما زال الغموض يلف هذه القضية، حيث لم تتوصل لجنة التحقيق الدولية، التي شكلها مجلس الأمن الدولي لمساعدة لبنان، على كشف الحقيقة، بالرغم من تبوؤ رئاستها أربعة محققين دوليين، فيتز جيرالد، ديتليف ميلس، سيرج برامرتز، ودانيال بيلمار، وقد أوردوا في تقاريرهم، ما كانت السلطات الأمنية اللبنانية، توصلت إليه في الأيام الأولى من التحقيقات، بأن الانفجار وقع فوق الأرض، وأن انتحارياً بسيارة “فان” قام باختراق موكب الحريري وتفجير نفسه، كما أعلنت الأجهزة الأمنية اللبنانية، عن التقاطها لاتصالات هاتفية، بين مجموعة أصولية إسلامية، سافرت فور وقوع الجريمة الى أستراليا.
فبعد 1825 يوماً من الجريمة، التي استغلت عربياً وإقليميا ودولياً، بالإضافة الى الاستفادة منها سياسياً وأمنياً على المستوى الداخلي اللبناني، فإن التحقيق فيها، لم يتوصل الى ما يشير الى المجرمين والجهات التي تقف وراءهم، وقد تمّ استهلاك آلاف الصفحات من التحقيقات والتقارير، ومئات الشهود، لم يظهر منهم سوى شهود الزور، الذين تم توظيفهم للإدلاء بشهادات كاذبة، اعترفت المحكمة الدولية بعدم صحتها، وأطلقت سراح الضباط الأربعة من اللبنانيين الذين شكلوا أساس النظام الأمني اللبناني الذي كان ينسّق مع القوات السورية وأجهزة استخباراتها العاملة في لبنان، حيث تبيّن للمدعي العام للمحكمة، بأن توقيف الضباط الأربعة (اللواء جميل السيد، اللواء علي الحاج، العميد ريمون عازار والعميد مصطفى حمدان)، لم يكن قانونياً، حيث استند القضاء اللبناني، الى توصية من المحقق الألماني ديتليف ميليس، الذي جيء به لتسييس التحقيق وتوجيهه نحو سوريا وحلفائها في لبنان، فتمّ تشكيل غرفة عمليات سياسية – أمنية – قضائية إعلامية، استحضرت أشخاصاً، كان بعضهم له علاقات أو اتصالات مع المخابرات السورية، وتمّ تزويدهم بسيناريو معلومات، كان أبرز من أدلى به الشاهد المفبرك محمد زهير الصدّيق، الذي يتحدث بشهادة أسقطتها المحكمة فيما بعد، وكان المقصود منها توريط ضباط لبنانيين وسوريين، في زعمه أنه كان يحضر معهم اجتماعات في لبنان (شقة في الضاحية الجنوبية) وفي سوريا (القصر الجمهوري) جرى في هذه الأمكنة وغيرها التخطيط والتحضير لتنفيذ الجريمة، وهذه الشهادة التي أدلى بها الصدّيق، أدخلت الضباط اللبنانيين الأربعة الى السجن، دون قرار ظني، حتى دون إجراء مواجهات بينهم وبين الصديق وشهود آخرين مثله، كهسام هسام، وإبراهيم جرجورة وغيرهما.
فالاتهامات التي كان يسوقها فريق الأكثرية النيابية، ضد سوريا وحلفائها، أنها تقف وراء اغتيال الحريري، وغيرها من الجرائم والتفجيرات، فكان ادعاؤهم أنها تأتي في سياق الاتهامات السياسية، التي تبرر قيامهم بالانقلاب على سوريا، والسعي الى إسقاط نظامها عبر التحالف مع المشروع الأميركي للمنطقة، الذي أعلنه الرئيس جورج بوش، ويتضمن إقامة الديمقراطية بإزاحة أنظمة دكتاتورية كما حصل في العراق، وأخرى دينية متطرفة كما جرى في أفغانستان، ليشمل “الشرق الأوسط الكبير”.
لكن هذه الاتهامات التي كانت توصف بالسياسية، لم تقم قوى “14 آذار” أي دليل حولها، بدءًا بأول محاولة اغتيال جرت للوزير والنائب مروان حمادة في أول تشرين الأول عام 2004، ثم في اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط 2005، وما حصل بعدهما، إذ تبيّن أن هذا الفريق السياسي الذي انغمس في المشروع الأميركي، وقرأ التحولات التي جرت في المنطقة بعد احتلال العراق، واندفاع إدارة الرئيس بوش، في حروب استباقية، ظن هذا الفريق أنه بهذا التحول الدولي الذي لعبت فرنسا برئاسة جاك شيراك، درواً في التحالف الذي نشأ مع الرئيس بوش، يمكنه أن يحقق أهدافه مستغلاً قضية اغتيال الحريري، بإخراج القوات السورية من لبنان، وإسقاط النظام الأمني فيه، أوالتهويل بالمحكمة الدولية لفرض شروط على النظام السوري، وفق “المفكرة الأميركية للمنطقة”.
هذه التحولات لم تمكّن هذا الفريق الذي فاز بأكثرية نيابية في انتخابات عام 2005، عبر التحالف الرباعي بين “أمل” و”حزب الله” و”تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، وأقام حكومة وفاق وطني، من أن يلتزم رئيسها فؤاد السنيورة بالبيان الوزاري الذي شرّع المقاومة مع اشتداد الضغط عليه أميركياً، لنزع سلاح المقاومة، الذي أحاله الرئيس نبيه بري الى طاولة الحوار، ليبحث ضمن استراتيجية دفاعية، وهذا ما لم يرق للإدارة الأميركية التي أعطت الضوء الأخضر الأميركي لإسرائيل لشن عدوان على لبنان في صيف 2006، لضرب المقاومة فيه، وشل إرادة الصمود لدى شعبه، الذي استطاع أن يتصدى خلال 33 يوماً لأبشع عدوان.
فالجريمة التي أودت بالحريري، كان لها وظيفة سياسية، ومن نفذها كان يهدف الى الضغط على سوريا للاستجابة، للشروط الأميركية، التي رفضتها منذ أن وطأت قدم أول جندي أميركي أرض العراق، فلم يقبل الرئيس بشار الأسد، التعاون مع الاحتلال الأميركي، ضد مقاومته، ولا وقف الدعم للمقاومة في لبنان، ولا التراجع عن تأييد حركة المقاومة في فلسطين، وشكّل موقفه الرافض صفعة للإدارة الأميركية التي ظنت أن الضغوط على سوريا وقرار الكونغرس الأميركي بمحاسبتها، واغتيال الحريري، والقرارات الدولية التي صدرت بعد الجريمة، سوف يدفعها الى أن تخضع، وكانت محاولة أميركية للمقايضة على الوجود السوري في لبنان بالتضييق على المقاومة اللبنانية، لكن القيادة السورية رفضت إملاءات وزير الخارجية الأميركية الأسبق كولن باول الذي اعترف فيما بعد بالعار الذي لحق به عندما وافق على احتلال العراق، دون أي وجه قانوني وإنساني.
لم تنجح عملية اغتيال الحريري، في لَيّ الذراع السورية ولا في تقهقر القوى الحليفة لها في لبنان، إذ تلقفت دمشق ما يتدبر من مؤامرة ضدها، وسحبت قواتها من لبنان بقرار جريء من الرئيس الأسد اتخذه بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الجريمة، وفاجأ به خصومه، الذين راهنوا على أن يساوموا معه على الوجود السوري، وأن تشتد الحملة الشعبية من قوى “14 آذار” عليه، والخوض ضده بعمليات عبر أساليب مختلفة ومنها القوة، إلاّ أن الرئيس السوري عطّل عليهم مشروعهم، وفرّغ “ثورة الأرز” من مضمون شعاراتها، وهي الاستقلال والسيادة، وجاء الخروج السوري، بقرار ذاتي سوري، ثمّ من خلال اجتماع للمجلس الأعلى اللبناني-السوري جمع مسؤولي البلدين على مستوى رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، والوزراء المختصين، وتمّ التوقيع على محضر اجتماع يقر بانسحاب القوات السورية، التي كانت قد بدأت قبل سنوات بالانسحاب من أماكن كثيرة من بيروت ومناطق عدة، وتركّز وجودها في البقاع والشمال، وقد نصّ اتفاق الطائف، على حقّها في ذلك لأسباب تتعلّق بالصراع العربي–الإسرائيلي.
خروج القوات السورية السريع، أجهض المشروع الأميركي، وفقدت قوى “14 آذار”، قضية كانت تناضل من أجلها، فلم يبقَ أمام أصحاب المشروع، سوى المحكمة الدولية مسلطة فوق رؤوس النظام في سوريا، التي تعاملت بحزم ضد محاولة تسييسها، في الوقت الذي تعاونت مع لجان التحقيق الدولية، وقدمت ما عندها من معلومات وسمحت لضباط منها أن يدلوا بإفادات أمامها، لكن ما حصل هو أن انكشاف شهود الزور، أربك التحقيق، فتمّ تبديل ميليس ببراميرتس، وبدأ مجرى التحقيق يتبدّل، ويتراجع لا بل ينفي توجيه الشبهة وليس الاتهام الى النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، بعد أن سقطت كل الادعاءات حول تورّط الرئيس الأسد والرئيس إميل لحود وشخصيات سورية ولبنانية سياسية وحزبية، وأعلن الرئيس الثاني للجنة التحقيق، أنه لا توجد أدلة على تورّط أي مسؤول لبناني أو سوري في الجريمة، وأعطى توصية بإطلاق سراح الموقوفين الذين كان القضاء اللبناني ممثلاً بسعيد ميرزا، يرفض إخراجهم من السجن لأسباب سياسية، كان يبوح بها للمقربين منه، كما أعلن عن ذلك اللواء السيد أكثر من مرة، واضطر الى تقديم شكاوى على ميرزا والقاضي صقر صقر، بعد تنحية القاضي الياس عيد الذي أوشك على فك أسر الضباط، حيث استمر المدير العام السابق للأمن العام في شكاويه في لبنان وسوريا وفرنسا، ضد كل من تورّط في تقديم معلومات كاذبة الى التحقيق، وتسبّب بسجنه مع زملائه ومواطنين لبنانيين آخرين.
فالمحكمة الدولية وبعد خمس سنوات من اغتيال الحريري، لم تستدع أي متهم للمثول أمامها، ولا يوجد موقوفون لديها، كما لم يتقدم المدعي العام بلمار بقرار ظني ضد أشخاص، مما قد يضع القضية في غياهب النسيان، إذا لم تبرز معطيات ما، يقدمها الادعاء العام للمحكمة، حيث ما زال رئيسها القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي متفائلاً بإمكانية الوصول الى معلومات حولها، دون أن يحدد الفترة الزمنية، أو يشير الى جهة ما تقف وراء الجريمة.
ولقد سلّم آل الحريري بما سيصدر عن المحكمة، وتراجعت اتهاماتهم ضد سوريا، كما عن النظام الأمني السابق، وجاءت زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق ولقاؤه الرئيس السوري بشار الأسد، ليفك الارتباط بين العلاقة الأخوية مع سوريا كما يقول هو، والجريمة التي مع سقوط التسييس عنها، انتظمت العلاقات اللبنانية– السورية، كما استقرت الساحة اللبنانية الداخلية، إذ لم تحقق عملية الاغتيال أهدافها بإشعال صراع سني– شيعي، بعد الجريمة مباشرة، وبدأت أصابع الاتهام تتجه نحو الضاحية الجنوبية كونها تشكل “المربع الأمني لحزب الله” بأن السيارات تفخخ فيها، وقد أعلن أكثر من مسؤول في قوى 14 آذار، بأن “حزب الله” ليس بعيداً عن الاغتيالات والتفجيرات كونه القوة الأمنية والعسكرية الأقوى في لبنان، دون أن يتذكر من أطلق هذه المزاعم، أن الأجهزة الأمنية ألقت القبض على شبكات تخريب إسرائيلية، اعترف أعضاؤها بارتكاب عمليات اغتيال وتفجير طالت عناصر وقيادات من المقاومة، إضافة الى أعمال إرهابية أخرى، وكذلك الخلايا الإسلامية المتطرفة التي ألقي القبض عليها، واعترفت بقيامها بأعمال اغتيال، ومن هذه الخلايا مجموعة ما يسمى الـ13، التي اعترفت بأنها وراء اغتيال الحريري ولكن تم طمس هذه المعلومات، بالرغم من تأكيد تقارير لجان التحقيق الدولية، من أن أصوليين وراء الجريمة.
فالتحقيق الدولي باغتيال الحريري، قد تفرض ظروف عربية وإقليمية ودولية، وربما لبنانية داخلية، عدم الكشف عنه، لأن من شأن ذلك، أن يتم التعرف على المؤامرة التي كانت تحاك للبنان من قوى دولية وإقليمية لإشعال الحرب فيه باقتتال مذهبي سنّي-شيعي ينهك المقاومة ويجرّد سلاحها من مهمته التحريرية، ويحوّله الى ميليشيا، وهذا ما حصل في محاولات عدة لاستدراجه الى الداخل كما جرى في 7 أيار 2008، والتي لا يمكن تنفيذها، إلا باغتيال شخصية كالرئيس الحريري ذات وزن على مستوى طائفته السنية، وعلاقاته العربية لاسيما مع السعودية وصداقاته الدولية.
فالحروب التي حصلت في العالم، كانت تبدأ باغتيال، وفي لبنان نشبت المعارك الداخلية إثر اغتيال. فقد انفجر الاقتتال عام 1958 بعد اغتيال الصحافي نسيب المتني، واندلعت الحرب الأهلية عام 1975، بعد اغتيال معروف سعد في صيدا، وإن اغتيال الحريري، كان لإعادة تجديد الحرب الأهلية، التي شهدنا نصفها، وأوقفها اتفاق الدوحة.
Leave a Reply