د. منذر سليمان
عانى الرئيس الأميركي ترامب من ازدراء مواقع تأثير تقليدية في أركان المؤسسة الحاكمة، ومنابرها الإعلامية بشكل رئيس، منذ بدء حملته الانتخابية؛ ولا زال يدفع الثمن السياسي لفوزه الذي فاجأ كافة التيارات والقوى، بما فيها ترامب وفريقه. هو لا يترك مناسبة إلا ويذكر الجمهور بخطأ حسابات وتوقعات الأخطبوط الإعلامي، محفزاً أنصاره ومؤيديه إلى الإقلاع عن اللحاق بركب سردية المؤسسة الرسمية حيث يتهمها بالفبركة والتزييف.
استغلت المؤسسة الإعلامية بعض الثغرات في تصريحات وأقوال الرئيس ترامب كمؤشر على تدهور شعبيته، بتسخيرها السلاح الأقوى في الوعي الجماعي– استطلاعات الرأي بكل ما يرافقها من دوافع سياسية مرجوة، فضلاً عن عدم حصافة وغياب المصداقية عن بعضها المتداول.
للدلالة، تلجأ مؤسسات إستطلاع الرأي الخاصة إلى عينة عشوائية من اصحاب الرأي استناداً لمواصفات مسبقة ومعدة بعناية. يشار أيضاً إلى التقسيم الاداري والانتخابي الذي طرأ على الخريطة الانتخابية منذ آخر احصاء سكاني، عام 2010، وتوزيع الناخبين على دوائر تحابي الحزب الجمهوري في مناطق الكثافة السكانية، ثمرةً لتخطيطٍ دقيق وتمويلٍ وفير. لذا فإن العينات المستطلعة تخضع أيضاً لتلك المواصفات وباستطاعة أي من المعنيين تطويع النتائج لتخدم أهدافاً محددة، في أغلب الاحيان.
مناسبة هذه المقدمة نتائج الاستطلاعات الأخيرة التي نُشرت نتائجها في الاسبوع الثاني من تموز الجاري، وتشير إلى «ثبات مؤشر الرضى عن سياسات ترامب عند نحو 40 نقطة مئوية». واستطرادا، يمكن الاستنتاج بأن الأغلبية، نحو 60 بالمئة، غير راضية عن ادائه. فتغض معظم الوسائل الإعلامية بصرها عن حقيقة ارتفاع طفيف في «شعبية ترامب» في شهر شباط الماضي، من 16 إلى 17.9 بالمئة.
وانفردت اسبوعية نيوزويك، 12 تموز، بالإشارة إلى «ارتفاع مؤشر الرضى عن سياسات ترامب بين صفوف مؤيديه ومناصريه». وواصلت أن منسوب الارتفاع الطفيف، 39,3 بالمئة، أو اعتراض الأغلبية، لا يعد استثناءً للقاعدة؛ ولم يسبقه لتلك النسب المتدنية إلا الرئيس الاسبق جيرالد فورد، بسبب تداعيات فضيحة ووترغيت وملابساتها، لإصداره قرار العفو الرئاسي عن بطلها الرئيس المستقيل نيكسون.
حقيقة الأمر ان ترامب وحزبه الجمهوري تعرضا لنكساتٍ سياسية منذ مطلع العام الجاري أخذت فعلها في تشكيل الوعي العام: سيل لا ينقطع من الاتهامات بعلاقات مشبوهة لترامب مع روسيا؛ فشله وحزبه في الوفاء بوعد إلغاء برنامج الرعاية الصحية الشامل (أوباماكير)؛ مؤشرات مبهمة ومتباينة لتوجهات السياسة الخارجية؛ ملابسات قوانين الحد من الهجرة وما رافقها من تداعيات وممارسات عنصرية فجة؛ والجدل الغاضب الذي رافق إقالة ترامب لمدير مكتب «أف بي آي»، جيمس كومي.
يجهد المرء في إيجاد تفسير منطقي لثبات مؤيدي ترامب عند ذات النسبة التي فاز بها، تقريبا، بينما تضخ وسائل الاعلام بكثافة وتركيز عناوين واتهامات لترامب بعلاقات مشبوهة مع روسيا.
أحد أبعاد التفسير نجده في تباين نوعية التغطية الاعلامية الأميركية في الداخل مقابل ما تنشره في الخارج، شبكة سي أن أن بفرعيها المحلي والدولي. فضلا عن البون الواسع بين اهتمامات الشعب الأميركي، بشكل عام، والشعوب الأخرى التي تتأثر مباشرة بالسياسات الأميركية.
بعض تجليات نوعية المصادر الاخبارية التي يعتمد عليها الأميركيون نجدها في استطلاع لأداء الشبكات الاعلامية، 26 حزيران – 2 تموز الجاري، مبيناً صدارة شبكة «فوكس نيوز» (اليمينية) بين المشاهدين وتفوقها على الشبكة الإخبارية الأولى، «سي أن أن»، التي جاءت في المرتبة الثالثة عشر. الاستنتاج المنطقي يقودنا إلى أن الأغلبية تحجم عن مشاهدة ومتابعة القنوات الإخبارية الرئيسية وتميل للارتكاز على شبكة فوكس فيما تطمح إليه من معلومات.
ويشير بعض الإعلاميين إلى زاوية أخرى في تراجع شعبية الشبكة الرائدة في عالم التلفزيون مردها تصدرها للحملة السلبية على الرئيس ترامب، بعض سردياتها عانى من المبالغة وعدم الدقة؛ والأهم ما يجري تداوله من شريط مصور يضم عدداً من كبار منتجي برامج الشبكة عينها يقرون فيه بوعيٍ تام أن بعض برامج تغطية ترامب كانت كاذبة.
حال الشبكة المرئية ليس استثناءاً في بيئة إعلامية شديدة التنافس والاحتكار، وما ارتكبته من «أخطاء» تعرضت لها أيضاً الوسائل المقروءة الكبرى: «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، دفعت أثمانها في تراجع أعداد قرائها وربما مدخولها المالي من الاعلانات.
منابر منظمة بتمويل وفير
الانكفاء النسبي عن وسائل الاعلام الرئيسة أدى بالجمهور المتابع إلى الالتفاف حول منابر اليمين والمحافظين لتلقي الاخبار، لا سيما شبكة فوكس، التي سجلت مليوني مشاهد يومياً في الاسبوع الأول من الشهر الجاري، وإلى صحيفة «واشنطن تايمز»، فضلاً عن الانتاج الغزير في النشرات الاسبوعية والمدونات الالكترونية. يشار إلى أن تلك المجموعة من الموارد الاعلامية التابعة لليمين تسير في فلك مهني منظم استطاعت التصدي بنجاح لحملات الاتهام للمرشح ترامب، وتعبئة قواعد مؤيديه.
أداء الوسائل الرئيسة انعكس سلباً عليها في قضايا سياسية حساسة. أفادت نتائج استطلاع رأي مؤخراً أن نسبة 25 بالمئة من الأميركيين تشك في خرق الرئيس ترامب للقوانين الأميركية، على خلفية اتهامه بالتعاون مع روسيا.
ارتفاع اعداد المشاهدين والمستمعين للوسائل اليمينية يضم أيضاً شبكات وبرامج الراديو. من أبرز المعلقين وأشهرهم من المحافظين الاذاعي المخضرم راش ليمبو، اذ تصل دائرة جمهور مستمعيه إلى 26 مليوناً في الاسبوع. بالمقابل، فإن أعلى نسبة جمهور برامج الراديو للتيار الليبرالي لا تتجاوز مليوني مستمع، وفق الإحصائيات المتوفرة.
يعاون ليمبو في تشكيل الرأي العام عدد آخر من ركائز اليمين: المذيع شون هانيتي، الذي يظهر على شاشة فوكس وكذلك له برنامج إذاعي يصل إلى مسمع 12.5 مليون متابع؛ غلين بيك، مارك ليفن، ومايكل سافج والذين يخاطبون جمهورا يتراوح تعداده بين 5 إلى 7 مليون فرد.
كما أن موارد الشبكة الالكترونية جرى تسخيرها بفعالية عالية خدمةً لخطاب اليمين المحافظ. على سبيل المثال يعد «درادج ريبورت» الالكتروني مصدراً أساسياً للمتابعين، وهو عبارة عن ملخص للأنباء يجري اعداده من مصادر متعددة، يصل معدل زواره نحو مليار شهرياً. ويحرص الموقع على نشر روابط الأخبار والمحررين لفائدة جمهوره. يشار إلى أن الموقع كان من أوائل الوسائل الإعلامية في نشر فضيحة الرئيس الأسبق بيل كلينتون مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي – بعد قرار أسبوعية «نيوزويك» التحفظ على القضية.
هناك أيضا سلسلة من المواقع الالكترونية التي تندرج تحت جناح اليمين، من أبرزها: شبكة «انفو وورز»، (5.5 مليون في الشهر)؛ وكذلك «بريتبارت» الذي كان يرأسه مستشار ترامب ستيف بانون.
فعالية وشهرة المواقع أعلاه جاء أيضاً على حساب المنابر التقليدية للمحافظين، لا سيما أسبوعية «ناشيونال ريفيو» التي تخاطب النخب الفكرية والثرية، تراجع جمهورها إلى 2.7 مليون في الشهر. حافظت الأسبوعية على بقاء مسافة بينها وبين ترامب، بل انتقدت تصريحاته الشعبوية خلال الحملة الانتخابية.
الموارد المخصصة لتلك المنابر مجتمعة تخاطب الفرد الأميركي بالدرجة الأولى، ولا تكترث لمخاطبة الجمهور العالمي كما هو الأمر مع المنابر الرئيسة مثل شبكة «سي أن أن» وكبريات الصحف، «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست». وهنا يكمن أحد عوامل فعاليتها في عصر صعود الخطاب الشعبوي والتقوقع الداخلي.
Leave a Reply