هل يستبل الأميركيون بـ«عصر بوش» عصراً جديداً من التضليل
كأن هناك ورقة خفية مررت الى كل المرشحين الجمهوريين، في المناظرة الرئاسية التي جرت في ديربورن الثلاثاء الماضي، ليتكلموا عن اسراف في الانفاق الفدرالي ادى الى عجز، (وكأن الحرب مع كل تداعياتها ليست سببا في جمود الاقتصاد الاميركي) ليخرجوا بالنتيجة الواحدة: خفض الضريبة والحد من الانفاق هما غاية المنى. كلهم كرروا تعبيرَي «خفض الضريبة» و«الحد من الانفاق» بطريقة توحي بالعجب، جولياني رأى ذلك ركيزة اقتصاد اميركا ورومني وجدها فرصة للهجوم على غرانهولم الديمقراطية وانتقاد رفعها للضريبة (هل يريد الجمهوريون، حقا، ان يقنعونا ان قلبهم على الشعب) وبراونباك اجاب متحمسا بـ«نعم» على سؤال «اتعتقد ان ولايتك لن تشهد زيادة ضريبية؟». اما المرشح تانكريدو فاقسم ان يقسم على ان لا يرفع الضريبة في ولايته! واتفقوا ايضا على موضوع الحرب على العراق وخطر ايران واسلحة الدمار (التي كانت في يوم من الايام في حوزة صدام كما قال طومبسون واختفت بقدرة قادر بعد احتلال العراق، اين ذهبت؟ قال: استعملها صدام ضد الاكراد) ولم يتخلف منهم في الموقف من الحرب الا رون بول!ثمة شيء عند المحافظين الجدد يشبة صفة خالدة في الحكام العرب: رص الصفوف وتلقين الجميع درسا للحفظ واستغباء الجماهير. هو عند العرب يتراوح ما بين حب الامير او الامن الداخلي ومحاربة اسرائيل ومن ثم السلام بطبعته الجديدة، وعند الجمهوريين اقتصاد السوق الحرة والاسلام المتطرف. (تكررت كلمة الاسلام المتطرف في المناظرة بطريقة عجيبة توحي بمحاولة غسل للعقول. فالجمهوريون برعوا في شيئين: الكذب ثم الكذب ثم الكذب حتى يتم تصديقهم، وترديد اكاذيبهم على الشعب الاميركي بطريقة طقوسية فإن لم يقبلها العقل اعتادت عليها الاذن فللتكرار مقدرة سحرية على التأثير بالاخص اذا ما صاحبه خطر التطرف الاسلامي). حتى رون بول الذي انتقد الحرب على العراق، اعتبر ان المشكلة الاقتصادية هي فقط بسبب الحرب، (يظهر ان لديه اجندة مقبولة من الجمهوريين على ان لا تتعدى مناهضة الحرب والتي اصبحت منطقا مستساغا في واشنطن على الاخص مع احتدام الخلاف ما بين طبقة «وول ستريت» التي بدأت بالتضرر من الحرب وطبقة السياسيين التوسعيين) ولم يستطع الا ترديد تلك التميمة «لا بد من خفض الضريبة والحد من الانفاق» وكأنها الشهادتان التي ستثبت ايمان كل المرشحين الجمهوريين وتؤكد على تسليمهم بدين المحافظين الحنيف: اقتصاد السوق الحرة. تلك الاكذوبة التي اطلقها الاقتصادي آدم سميث في القرن الثامن عشر ومازالت تمثل الطرحة التي تخفي وجه العروس القبيح. ورغم ان بول قد عرض بعض الافكار التي تبدو للمراقب انها جيدة عن زيادة الاغنياء غنى والفقراء فقرا لكنه عاد وكرر كلمة السر «يجب الحد من الانفاق والانفاق ضمن امكاناتنا» وأقسم انني لم افهم كيف ربط الامور ببعضها.اما جولياني فهو رواية اخرى: انتقد القوانين التي تفرضها الحكومات لتنظيم السوق (منتقدا بالاخص الديمقراطيين) فعدم فرض قوانين كثيرة لتنظيم السوق وتركه لقوانينه الخاصة هي اساس اقتصاد السوق الحر! وهي المدرسة التي فصل قوانينها سميث الذي اعتبر ان هناك يدا خفية تنظم السوق، من عرض وطلب، ويجب، بالتالي، عدم تدخل السلطة السياسية في حركته وتركه لقوانين المنافسة الحرة (لا ادري كيف غاب عن ذهن الفيلسوف الاقتصادي الفذ ان المنافسة تفترض المساواة التي تصبح هذرا ان كانت بين شركات كبرى ذات قدرة تنافسية عاليه في مواجهة اعمال صغيرة ومستهلكين ذوي دخل محدود). لكن رئيس بلدية نيويورك السابق لم يكتف فقط بما تقدم بل عد نظام مقاضاة الشركات من قبل الافراد من العوامل التي تدمر الاقتصاد (ليس بعيدا عن محاولة بوش الابن اقرار قوانين تخفض من التعويضات التي يتقاضاها المتضررون من الاخطاء الطبية بدلا من العمل على تقليل حجم تلك الاخطاء: هو نفس المنطق المثقوب الذي يسيطر على تلك الطبقة الجشعة والذي يحمي الاطباء على حساب المتضررين، فلا يكفي للطبقة الميسورة الامن المالي، لا، بل يجب تدعيمه بأمن قانوني يحمي ذلك المال بعد ان يتكدس!). واستمرت المسرحية بأداء لا يقنع الا المقتنع اصلا، او من ولد على دين الاقتناع: سئل طومبسون عن استطلاع اجرته «وول ستريت» وجد ان ثلاثة ارباع الاميركيين يعتقدون انهم في حالة اقتصادية سيئة. وبعد ان استعرض طومبسون متانة الاقتصاد الاميركي قال بأن المشكلة هي في الانفاق المسرف غير ذي الجدوى!! فهو انكر بداية سوء الاقتصاد الاميركي او امكانية مواجهته اي اعسار قريب. ولكنه لم يستطع ان يمسك عن التحدث بما اوحي اليه، وحتى يصل الى فكرتَي «الحد من الانفاق وخفض الضريبة» اقر بأن هناك مشكلة، لكنه حرف الحديث ليجعل سببها الخلل في الانفاق، او كما وصفه «بالعادات الانفاقية التي درجت عليها الحكومات» والتي لا طائل منها والتي ستكون سببا لأي اعسار اقتصادي مستقبلي محتمل.لقد عدد فريد طومبسون ارتفاع مؤشرات سوق الاسهم، وانخفاض التضخم، وتقليص معدلات البطالة كأدلة على متانة الاقتصاد الاميركي. لكن كيف تتوافق نتيجة الاستطلاع السابق مع هذه الحقائق الاقتصادية؟ كيف يكون الاقتصاد في حالة جيدة (بحسب تلك المؤشرات) ويرى ثلاثة ارباع الاميركيين انه في ازمة او على الاقل في مواجهة ازمة؟ (كأن معدتك توجعك، ربما بسبب التعصيب، ويقول لك الطبيب انك بحالة جيدة، لأن آلاته لا تريه الا الاورام السرطانية القاتلة دون الآلام المبرحة).ان هذه النقاط التي اعتبرها طومبسون مقدمات منطقية للخروج بنيجته هي الرموز التي يبرع اقتصاديو السلطة (وهم على شاكلة وعاظ السلاطين) في استخدامها لتضليل الرأي العام: ان تلك المؤشرات تدل على تحسن لكن ليس بالضرورة ذلك الذي يفيد الطبقات الوسطى من الشعب. ان ارتفاع مؤشرات سوق الاسهم لا يفيد العامل الذي سوف يخسر قرضه العقاري لأن لا مال زائد لديه، ليس فقط لدفع قسط القرض، بل لشراء اسهما تدر عليه ريعا ان هي ارتفعت معدلاتها. كما ان التضخم وان لم يزد، فليس مؤشرا كافيا (لقد اقنعنا الرأسماليون ان التضخم هو قدر محتوم) فيكفي زيادة في الاسعار ليقل الدخل الحقيقي للفرد دون الحاجة الى فضل التضخم (ان الدخل الحقيقي يقل مثلا اذا زاد سعر غالون البنزين، فالمئة دولار سوف تشتري اقل ان ارتفعت اسعار النفط، وعليه، تنقص قيمتها الحقيقية) اما معدلات البطالة فهي على شاكلة التضخم، لأن الفرد قد يعمل بدوامين ليؤمن ما كان يؤمنه له دوام واحد، فانخفاض البطالة وحدها ليست مؤشرا على حُسن الاقتصاد.لذلك، فتلك المقدمات التي رددها طومبسون لا تدل على رخاء الاقتصاد في مواجهة الطبقات الوسطى بل هي تفيد في الدرجة الاولى الشركات الكبرى. (ويبقى الحل عند الطبيب قرص مهدئ او حبتين بانادول). وعلى شاكلة جورج بوش الأبن (والذي لم يجرؤ كثير من المرشحين على التلفظ باسمه اثناء المناظرة مخافة الحظ السيء) يكفي ذكر بعض الجمل الرنانة لننهي المشكلة. قال طومبسون: ان الاقتصاد الاميركي العظيم هو سر اميركا. شكرا سيد طومبسون على المعلومة. اما ماكين والذي سئل عن التفاوت ما بين الضريبة المفروضة على الشركات والتي هي اقل من تلك المفروضة على الافراد، فاستعان فورا باحدى التعاويذ الرأسمالية التي يرددها عاشقو السوق الحرة لدفع اشباح الافكار الاشتراكية: «ان الثروة تخلق الثروة» (وهي نفس جملة طومبسون «ان الاقتصاد الحر سر اميركا» وجملة غولياني «السوق الحرة ركيزة لاميركا» وهي على شاكلة «العدالة الدولية» التي يرددها سياديو لبنان) ولف ماكين ودار، اقبل وأدبر، ثم وجه قبلته الى قدس الاقداس: الحد من الانفاق. وارجع المشكلة الى هجرة الوظائف حيث الايدي العاملة الرخيصة في الصين (او كما اصر المرشح دوناكين هانتير على تسميتها «الصين الشيوعية» مع انه كان الاولى به ان يسميها «الصين الاسلامية» حتى يستجلب اكبر قدر من الوجل في قلوب الاميركيين) مع ان الجواب كان ممكن ان يكون ابسط من ذلك بكثير: رفع الضريبة على الشركات التي تجني المليارات وتحديد رواتب طبقة المدراء في الشركات (والتي وصل ساعة الواحد منهم في شركة مثل وولمارت الى 11 الف دولار في الساعة في مقابل 7 دولارات للعامل في نفس الشركة) وتأميم الضمان الخاص وغيرها ليتم اعادة توزيع الدخول بطريقة اكثر عدلا. لكن احدا لا يجرؤ على ذكر ذلك. ويبقى الحل المروج له هو الحد من الانفاق وتقليص الضريبة وترك السوق دون قوانين تحد من حرية الشركات الكبرى. وذلك برأي ماكين «نظام عادل»! لكن المفاجأة الكبرى جاءت من عند المرشح توم تانكريدو: فبعد أن قرأ المعوذتين (خفض الضريبة والحد من الانفاق) جاء بما لم يأت به احد، فعنده لا تعالج المشكلة فقط بالحد من الانفاق، وطالب، بانفعال ينم عن حمية على مصلحة البلاد، بخصخصة ضمان الشيخوخة والاعانة الصحية، ليرفع يد الحكومة عن آخر معاقل الطبقة الوسطى، اذ أن هناك نهرا من عسل لم تضع الشركات بعد يدها عليه. وعلى الجمهوريين ان يتكفلوا بالمهمة. مرحبا بكم في اقتصاد السوق الحرة.
Leave a Reply