كمال العبدلي – «صدى الوطن»
على قاعة «قصر راين» الواقعة في الميل الرابع عشر تقاطع راين، أقام منتدى الرافدين للثقافة والفنون أمسية أدبية للقاص الشاعر العراقي كريم شعلان، يوم الجمعة 2 أيلول (سبتمبر) الجاري، حضرها جمعٌ من أدباء ومثقّفي وأبناء الجالية.
الحفل قدّمه الروائي الدكتور عزيز التميمي بكلمةٍ استعرض خلالها سيرة الأديب ومنجزَاته.
ويعرف عن شعلان أنه قام بإطلاق مشروع الكتاب السنوي في كندا، وهي فكرة اصدار كتاب سنوي باللغة الانكليزية يتم من خلاله تقديم الابداع العربي للمتلقي الكندي وما يشمل الجاليات الأخرى التي تتواصل باللغة الانكليزية، وقد تم إصدار كتاب ٢٠١٦ وكان مخصصاً للفن التشكيلي العراقي في كندا.
وشعلان هو عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وعضو رابطة القلم الكندية.
ويعمل شعلان مسؤولاً للنشاط الثقافي في الجمعية العراقية الكندية ورابطة الفنانين والأدباء العراقيين في كندا والمجموعة العربية الكندية في أونتاريو.
الملامح الفنية لنتاج كريم شعلان
وقال التميمي في كلمته أن إسلوب المزاوجة بين الشعر والقصة كان واضحاً في مجموعة شعلان الأخيرة «نص في الظلام»، فنصوصه تكاد تعلن عن ميلاد قصة شعرية تارة أو قصيدة قصصية تارة أخرى، اللغة السردية تميل إلى التكثيف بأسلوب شعري، وهذه الملاحظة تُحسب للكاتب فكما نعرف أن الأسلوب القصصي يعتمد بالدرجة الأساس على التكثيف اللغوي والسرد المشهدي، في حين تميل اللغة الشعرية إلى الإيجاز وبناء الحدث ضمن بنية الصورة المجازية. أو بتعريف علمي للحالة .. السرد القصصي سرد مايكروسكوبي «ينشىء عالم الأشياء الصغيرة التي تتحد مع حركة المكان والزمان لتعرّف ثيمة القصة بينما اللغة الشعرية تعكس المنظور التلسكوبي الذي يختزل الآفاق الشاسعة ليحيلها إلى قطرة شفافة حاذقة تسمى الصورة المجازية».
وأضاف التميمي بأن القاص شعلان يعتمد على البعد النفسي في تحديد ملامح الشخصية اكثر من البعد الإجتماعي، وهذه ببساطة تعطي مساحة اكبر للشخصية لتكشف عن خلجاتها وانفعالاتها أكثر من عين الراوي التي تنقل المشاهد للقارئ.
الإعتماد على تشظي الثيمات هو ما يمكن أن يعرّف فلسفة كريم شعلان السردية وهذا الأسلوب برز جلياً في نتاجات رواد الحداثة الفرنسية امثال كلود سيمون والبير كامو. حيث السرد المتفلّت من قبضة المكان، المتشظي ضمن أزمنة متداخلة هنا وهناك، يعتلي منابر التاريخ والجغرافيا، يخوض في تدوينات الفلسفة، الخيال، الفنتازيا، ثم يتمحور من جديد في رحم الثيمة الاولى، وكأنه يوحي لنا بإشكالية الحياة التي تبدأ وتنتهي في متاهات الإنشغال.
تمتاز كتابات كريم شعلان بإنحيازها إلى القضايا الإنسانية، إلى مكابدات وعذابات هذا الكائن المحكوم بمعادلة الحياة والصبر والعناء، لم يحاول أن يستهين بكلماته ولم يجيّرها يوماً لدغدغة مشاعر سلطة غاشمة أو يكسب بها ود طواويس السلطان، تجد لوعته تسامر ليالي الكادحين والمظلومين، وهذا أسمى تتويج للإبداع حينما يوسم بعلاقته الجدلية مع الإنسان.
يمتاز شعر كريم شعلان بالعذوبة اللغوية التي تشعرك بأنك تشرب ماءً يثلج ظمأك، ويأخذك حيث ترقد الأحلام والدموع والفرح.
وعن موت المظلومين يكتب كريم شعلان:
«يَسقطُونَ مثلَ خَشبٍ عَتيقٍ، يَحترقونَ، ويَصعدُ دُخانُهم كأفاعٍ تَتراقصُ على صوتِ سَحرٍ لا إسمَ لَه، نَحنُ جاهزونَ، نَصنعُ لَهم ماشاءوا مِن سِلاحٍ وتوابيتَ وأطفالٍ يَهزجون».
بعدَها قدّم الضيف حيث قرأ نصّاً مفتوحاً بعنوان «رحيل وورود» أثارَ إعجابَ الحاضرين لما انطوى عليه من تكثيف المحنة ما بين الحرب وآثارها وما بين الانشداد نحو عالَم الهجرة والاغتراب، ومن أجل إتحاف القارئ به نستعرضهُ كاملاً:
رحيلٌ وورود
نحو جهات الغياب، رحلنا كثيراً، وسرنا طويلاً ومازلنا لم نصل..
القشّةُ الصغيرة التي أخذتها العاصفة، مازالتْ تحملُ رائحة الشجرة، تلك الشجرة التي هجرها القشُّ وصارت اطلال ذكريات تنوحُ كـ ناي أعمى يتلمّسُ…
أنا، وأنتَ، هو وهي، نحن… هل تعصف بنا تلك الريح أبدا؟
قلنا ستنتهي!
لكنّ الريح تأتي بما تشتهي الحربُ..
انتهتْ مرات كثيرات حياتنا، لكن الحرب انتصبت برائِها، فأضعنا الحُبَّ ولم نجده بين حروف القواميس في دليل ايجاد الجثث المزخرفة بالرصاص والشظايا..
***
بين محطة ومطار ثمة حقيبة ثقيلة جداً تئنّ بالذكريات والأمنيات المجفّفة
بين رصيف ومقهى ثمة حذاء لا يقوى على تتمة الرحلة
بين مشهد وآخر ثمة من يتلفّت لظلهِ ظانّا أنهُ رهط من الاصدقاء والحبيبات
بين كلمة وأخرى ثمة لسان يتعثر ويعتذر للمعاني
بيني وبيني جدران عالية عزلتني عن رؤية مايحيط بي وأخذتني من شجرة العائلة كقشةٍ تحنُّ لجلسة الحديقة في مساء الخميس.
بيوتنا التي لوّنها رفيفُ الاماسي ولمّةُ الأحباب، أين صارتْ الان؟ وكيف تحوّلتْ الى صورٍ وحسرات ينفثها المذياع في محطات الغربة؟
***
في مطلع التسعينات وبعد الحرب مابعد الأخيرة، هربتُ من جسدي، هربتُ ظاناً انني معي، لم أنتبه أنني نسيتُ قلبي ومخّي ولم أصحب معي سوى ظل لشخص غريب..
تركتُ بغداد وتركتُ صورة أمي وهي تنظر صوبي وكأنها تقول هذه آخر شهقة نتشاركها.. رسمتْ أمي بعينيها سماء مازالت تطارد حياتي وتمنحني الغموض في كلامي والصبر في انتظار ماتخبّئُهُ الأيام.
أقول: أينكِ، أينكِ؟ وكأنني اسأل المارّة في شوارع تورونتو الصاخبة، ما من مجيب، وليس للصدى معنى، لأنها أمّي التي واجهت العالم بنظرتها الشاسعة للسماء، أمّي التي تجيد البكاء أكثرَ من أيّ شيء..
مع مَن سأبكي الليلة؟
وصلنا ولم نصل
دققنا أوتاداً من قصب وكأننا نوهم الريح
تركنا الصحراء بما تحوي من آثارٍ ونبوءات وتراثٍ عميق
وصرنا نجول في مدن الرطين بحثاً عن حرف في لافتةٍ نفهمها
مازلتُ أكتب اسمي بحرف كبير وأبصمُ بإبهامٍ موشوم ببغداد
أتنفّسُ لغةَ الجنوب ودخان شواء دجلة
وأسمع بوضوح بين كلّ هذا الصخب صوت الغزالي ودعاء أمّي وزعيق الباعة في سوق بغداد الجديدة..
ثمّ أتبعها بقراءة قصيدة عموديّة نجتزئ منها البيتَين التاليَين:
رحلَ الحمامُ بدايةً لمَحنّةٍ
وأنا النهايةُ كيف لي أن أبتدي؟
كنّا نظنّ هِدايةً بِفِراقِنا
مَن ذا أضاعَ بلادَهُ كي يهتدي
وقبل اختتام الأمسية فُتح باب المناقشات حيث أجاب الأديبُ الضيف على أسئلة وآراء المناقشين، إذ جرت بحميميّة سادها الانسجام في تفاعل الآراء، لتنتهي الأمسية بتقديم الأكاديمي نبيل رومايا هديّة تذكارية للأديب المُحتَفى به، هذا وقد قامت قناة الفضائية العراقية بتغطية كامل الأمسية، إلى جانب قناة «عشتار» الفضائية.
Leave a Reply