حكاية التنجيم والتبصير واستشارة الكواكب والأبراج تعتبر حكاية قديمة قدم الجهل في الرؤوس والوسوسة في النفوس، ولطالما وجّه البعض من الناس، قديما وحديثا، مسالكهم طوعاً لمشورة المنجمين والمبصرين وانقادوا لما تقوله لهم النجوم والأبراج.
وفي كل الحالات والأحوال، كذّبت تلك المشورات العقيمة والمضحكة وعودها وكأنها وعود حكوماتنا العربية من عشرات السنين بالاصلاح والصلاح والانشراح وإلغاء الفساد والإفساد وطرد وتأديب الموظفين المرتشين كبارا وصغارا وإرساء قواعد دولة القانون والمؤسسات ومحاسبة المسيئين أينما وجدوا.
ولطالما سقط مصدقو الأكاذيب القديمة الجديدة، أكاذيب النجوم والمبرجين، حيث يتكاثرون في حالات الإفلاس واليأس والخنوع وفي مراحل الجهل والبدائية تماما كما الآن في زمن التطور والتقدم التكنولوجي.
وكما يعلم الكثيرون، الجهل والبدائية، ليسا مرهونين بزمان ومكان محددين، فقد يستبدان بالانسان حتى وهو يعيش في القرن الواحد والعشرين الذي يركب السيارات الحديثة ويحمل السلولير واللاب توب “وين ما راح” ويتكلم لغة العرب بلغة الإنكليز ويسمي نفسه رورو بدلاً من راشد وإيلي بدلا من الياس وبوب بدلا من عباس.. لا فرق بينه وبين الكثير من خلق الله في زماننا الحاضر حيث لا يخرجون من بيوتهم ولا يقولون صباح الخير لزوجاتهم (أو زوجاتهن) قبل الاستماع لما تقوله لهم النجوم والأبراج. والمصيبة أن هؤلاء جميعا يعتقدون أن للأبراج والنجوم تأثيرا على سير الأحداث وتقرير المصائر وأنها صادقة لا تكذب فيما تقول ولا تخفى عليها خافية مما سوف يحصل!
وما يزيد الطين بلة، أن العديد من وسائل الاعلام، من إذاعات وجرايد وتلفزيونات ومجلات وانترنت، وبصورة يومية لا تحول ولا تزول ولا تقبل التأجيل والتبديل، تواجه المستمعين أو المشاهدين أو القراء إلى أعمال الكواكب في تكوين الإنسان على هذه الصورة أو تلك، وفي طبع أخلاقه وميوله بهذا الطابع لا ذاك، وكيف أنها هي التي تقرر ما سوف يواجهه اليوم وغدا وعلى طول الأحوال، لا لسبب إلا لأنه ولد في هذا التاريخ الذي شاء له القدر أن يولد فيه، ولم يولد قبله أو بعده ولو بيوم واحد أو بساعة أو نصف ساعة، إلى آخر ما هنالك من أقاويل تحمل الانسان “العاقل” على أن يتأسف ويضحك في نفس الوقت لهذه “الجهود” التي يبذلها أصحابها للتبشير أو للتحذير مما هو آت وقادم، لكن المضحك المبكي أن الكثيرين من “المساكين” ينتظرون ما تقوله لهم النجوم والأبراج وما يشير به “علماء” التنجيم والتبصير والتبريج!
حينما عزم المعتصم الخليفة العباسي بن هارون الرشيد غزو بلاد الروم استجابة لصيحة إحداهن من سكان عمورية عند استنجادها به من بعيد حينما أطلقت الصيحة المشهورة “وامعتصماه” استشار المعتصم المنجمين وأصحاب الإستخارات، كما كان الملوك يفعلون قبل إقدامهم على أمر خطير تتعثر فيه مصائر البلاد والعباد، نظر المنجمون في أحوال النجوم والأبراج واستشاروها، وأخبروا المعتصم بأن الأوان غير ملائم لغزو عمورية حسب ما تقول الكواكب والأفلاك، محذرين من هزيمة نكراء إن تم الغزو في هذا الوقت.
غير أن المعتصم لم يحفل بما تقوله الأبراج والأفلاك فغزا بلاد الروم وكان النصر الذي حققه عظيماً وساحقا. وقد سجل الشاعر أبوتمام ذلك الانتصار في قصيدته البائية الشهيرة التي أعلى فيها من شأن الإرادة وسفه فيها المنجمين والمبرجين. لقد كان أبو تمام مؤمنا بحكمة الله الكاملة الشاملة، ومتميزا بعقل راجح ورؤية بعيدة وثقافة واسعة وإحساس شفاف، وكان واثقا بمنطق الطبيعة ونواميسها السرمدية، ساخرا من هؤلاء الأغبياء والأدعياء الذين يقوّلون الكواكب والأبراج ما لا تقوله وهي الكائنات الجامدة المسيّرة التي لا تعقل ولا تفعل ولا تقول شأنها شأن سائر الأشياء المخلوقة في هذا الكون.
وقد قال لهم أبو تمام في قصيدته البائية المشهورة:
السيف أصدق إنباء من الكتب. وكان يقصد بـ “الكتب” تلك المخطوطات التي ينظر فيها المبرجون، ثم ينفي عن “الشهب السبعة” أي الكواكب ينفي عنها كل علم بالأحوال وينعت ادعاءاتهم بالزخرف والكذب والتفبق السخيف مثل كلام الحكوة وسألهم:
أين الرواية؟ بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب؟
وبعد عدة أبيات سخر بها من أولئك الكذابين وأبراجهم وعلومهم عاد وقال:
يقضون بالأمر عنها، وهي غافلة
ما دار في فلك أو دار في قطب!
أرجو أن تكون هذه القصة عبرة لكل انسان حيران تعبان ودوخان ينتظر الخير والسعادة من حركة النجوم واستخارات وفتاوى رجال الدين ومن قسمات وجوه أصحاب الشأن وأرجو أن يكون هذا المقال خفيفا على القراء جميعا في هذا الجو الحار.
Leave a Reply