بقلم: كمال العبدلي
ترتكبُ السلطاتُ القيِّمةُ على مصير النشر جريمتَها في حجب النتاجات الأدبيّة، وهي في غمرتِها العشوائيّة نادراً، والمُنظَّمة غالباً مع سبقِ الإصرار، لا تحسب لآثارِها اللاحقة التي تعود بإدانة تصرُّفِ تلك السلطات، حتّى ولو تقادمَ الزمن وتعاقبت الأجيال، بالإضافةِ إلى انتشار صداها وانتقال هذا الصدى إلى الأوساط الأدبيّة العربيّة، حيث إقامة الحجّةِ، بالضجّة الإستنكاريّة، ولكي أستكملَ جزءاً من المشهد أمام القاريء، أدرج هنا نموذجاً حيّاً لذلك، حيث كتبَ الأديبُ اللبنانيُّ العربيُّ الشاعر محمّد علي شمس الدين مقالةً في أحد أعداد جريدة النهار البيروتيّة بعنوان: «حسين مردان.. في «قصائد عارية» تتّسعُ الفكرة وتضيقُ العبارة»:
حسين مردان يسلك بين صعاليك الشعر العراقي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والصعلكة هنا هي صعلكة سلوك شاعر مدني عاش في بغداد -وليس في الصحراء القديمة حيث كان للصعاليك شأن آخر- وكان أقرب ما يكون لمواخيرها وحاناتها ولنساء تلك المواخير والحانات… كما تنطوي -أي الصعلكة- على تشرّد في الشوارع، وتهتّك في السلوك، وما رسمته كلمات القصائد من هذه السيرة الشطارية -على غرار الخبز الحافي لمحمد شكري-.. هذا على أن ديوان «قصائد عارية» الذي تعيد دار الجديد نشره لحسين مردان العام 2007 (طبق الأصل عن الطبعة الثانية الصادرة في بغداد العام 1955 أما الأولى فكانت صدرت العام 1949 حيث صودرت وأحيل صاحبها إلى المحاكمة وبرأته المحكمة الجنائية)…
… هو ديوان قصائد في عري الجسد، وأوصاف الشهوة الأيروتيكية، وإبحار جسدي في علاقة محض جسدية، لا مكان فيها لرومانسية الحب أو عذريته أو رمزيته الصوفية، ما أسمته أدبيات منتصف القرن الفائت بالأدب المكشوف… ودافع عنه المحامي صفاء الأورفلي وكيل الشاعر أمام حاكم جزاء بغداد في حينه، جاء في مرافعة المحامي «ما نشره موكلي ليس مخلاً بالآداب… إن موكلي أراد أن يفهم الناس ماهية الرذيلة، وأراد محاربة الرذيلة عن طريق الرذيلة ذاتها».
قرّر الحاكم إحالة القضية إلى لجنة أدبية من كبار أدباء العراق، لدراسة الديوان وتقديم تقرير عنه قبل إصدار القرار، أمّا القرار فقد صدر بعد ذلك ليفرج عن الشاعر «لعدم توفر أركان الجريمة ضد المتهم السيد حسين مردان» (حاكم جزاء بغداد الأولى 26 تموز 1950).
وقائع المصادرة والمحاكمة سلّطت الضوء في حينه، على شاعر شاب في أول أعماله الشعرية (كان مردان في الثانية والعشرين من عمره هو المولود سنة 1947) فكتب عنه في باريس وإنكلترا وظلت الصحف العربية تكتب عن حياة الشاعر وديوانه لمدة سنة كاملة… فهل كان ذلك بسبب الأهمّية الفنية لقصائد الديوان أم بسبب إثارة المصادرة والمحاكمة؟
نسأل اليوم أنفسنا هذا السؤال، ونحن على مسافة ستين عاماً من الصدور الأول للديوان ووقائع المحاكمة… إن هذه المسافة من الزمان، كما الزمان نفسه، هما غربال ضروري لأي عمل إبداعي، حيث يسقط منه ما ليس منه أصلاً وإبداعاً… يسقط الزبد ويذهب هباء أو جفاء ليبقى ما ينفع الناس، وهو هنا القيمة الفنية للقصائد… وهي المعوّل عليه.
ظل أبي شبكة
«قصائد عارية» لحسين مردان، مسبوقة بأفاعي الفردوس للشاعر اللبناني الياس أبو شبكة.. وهي تضغط بظلها عليها، ذلك أن الطبعة الثانية من «الأفاعي..» كانت قد صدرت في العام 1948 أي قبل سنة واحدة من صدور ديوان مردان. وقصائد أبو شبكة هي قصائد الشهوة وتمجيدها، ومديح فحيح الإثم، وفلسفتها لذية أبيقورية (نسبة لأبيقورس)… وأبو شبكة كان متأثراً بديوان بودلير «أزهار الشر» وهي قصائد ثبتت قدرة الإبداع بل حقه في أن يكون أخلاقياً… وأن شرعيته أو أخلاقيته كائنتان في إبداعه لا في موضوعه، وهي مسألة لم تغب عن النظرية النقدية العربية وفلسفتها، فهي لم تحاكم أشعار أبي نؤاس (الحسن بن هانئ) في الخمرة والمجون محاكمة أخلاقية أو دينية، بل مجدت فيها الإبداع الشعري والتوليد.
حسناً… «قصائد عارية» إذن، مسبوقة «بأفاعي» أبي شبكة.. تلتها بعد ذلك للشاعر نفسه قصيدة بعنوان «اللحن الأسود» في العام 1950 ما لبثت السلطات أن صادرتها وسجنت الشاعر ثم أفرج عنه، وفي سنة 1951 أصدر كتاباً نثرياً بعنوان «صور مرعبة» يصور فيه حياة الحشاشين ومتعاطي المخدرات…
ما يقرب هذا الشاعر (في سيرته على الأقل) من جملة الشعراء الفرنسيين الملاعين من أمثال بودلير ورامبو ولوثر يامون والمركيز دي ساد… يذكر في هذه المسألة، ما كتبه رامبو من ضرورة تعطيل الحواس، حتى بالمخدرات، من أجل الوصول للصفاء المطلق للأحاسيس… باعتباره الحواس تعطل الأحاسيس. أحسب أن حسين مردان كان متأثراً بهذه الفكرة من خلال كتابه «صور مرعبة»، كما أنه يكتب إشارات لذلك في قصيدة «للطين» حيث يقول مخاطباً امرأته: «.. وتخدّري بالموبقات فليس في هذا الوجود سوى الشقاء المؤلم»، ويسمّي ذلك صراحة في مقطع من قصيدة «الليل والغليون» على ما يقول «أيقظ حيوانه».
أهمية قصائد حسين مردان، تأتي في أنها قصائد الغريزة الأولى غير المهذبة وغير المدرّبة والمسنونة كمخلب، وحتى الضعف الذي يشوب بعضها، نجده مكسوحاً بما يتدفّق فيها من عرام الشهوة والإستغراق في لذّة الجسد الأنثوي استغراقاً مدهشاً يدفع الشاعر ليقول عن نفسه هذين البيتين في قصيدة «العروق الزرق» وهي قصيدة في عبادة «جمال الشهوة المرعب».
«ما كنت أؤمن بالجحيم وحرّها/لو لم أضع شفتي على شفتيك/كم ليلة قضّيتها متسهِّداً/كالكلب يلعق مرشفي قدميكِ»
في هذين البيتين، يظهر لنا حسين مردان كشاعر شهوة، رجيم ومبدع، إنه يدرك كم هي خطيرة هذه الكلمات، وسائر كلمات القصائد.. فهي قصائد الشر، واللعنة، والماخور، والجسد الأنثوي حيث لا مجال معه لحب هاديء أو شاحب أو هامس أو نائس، بل للافتراس، فالحب بالنسبة لحسين مردان، محض جسد، والحب افتراس… «إبليس والكأس والماخور أصحابي/نذرت للشبق المحموم أعصابي/من كل ريّانة الثديين ضامرة/تجيد فهم الهوى بالظفر والناب»
غالباً ما يشير مردان في قصائده إلى ما يسمّيه «الوحش الذي في داخلي..». إنه شاعر غريزة غير مدرَّبة، بل غير مهذَّبة، بل مكشوفة عارية ومباشرة ويسميها باسمها ويعترف أنه عبد شهوته ومجونه… وربما كان الماخور مكانه ليرعى فيه هذه الشهوات.. بالطبع، ثمة يعشش الشيطان، وحسين مردان من مريديه بل من أتباعه.
«وتبعتُ الشيطان في كلِّ دربٍ/حاملاً فوق راحتيّ مصيري»
أمّا جسد المرأة فمدفن أرجاس. وهو والغ فيه كوحش.. ولا يتورّع، كما سبق البيت، عن وصف نفسه بالكلب.
هل ثمة من مبرّر فكري أو فلسفي لأحوال حسين مردان؟ الشاعر على ما يظهر، شيطان نفسه، بل وحشها. وربما كان لديه باكراً إحساسٌ حادّ بالموت، وعذابٌ لا حدود له، جعله يتصرف كحيوان مصعوق، ومجنون… يقول في قصيدة «جراثيم»:
«أدوس على الوجود وساكنيه/وأبصق فوق سكان القبور/دعيني أعبد الشيطان وحدي/ وأعبث في الحياة بلا ضمير».
فأية لعنة ضربته باكراً، وجعلته يهذي هذا الهذيان الفاجع وكأنه لوثر يامون في «أناشيد مالدورور»، وأية صاعقة مبكرة صعقت الإنسانَ فيه وأبقت على الوحش؟ إنه يعرف عمقَ وحدته، بل عزلته، بل توحّشه في عالم الإنس، لذا تراه يهدي قصائدَه إلى نفسه «إلى حسين مردان أرفع هذه الصرخات التي انبعثت من عروقه في لحظات هائلة من حياته الرهيبة»… كما أنه، على الأرجح، يستعير جملة بودلير حين خاطب القارئ بقوله: «أيها القارئ المراوغ، يا شبيهي يا أخي»..
وذلك من خلال كلمته إلى القاريء… يقول له فيها: «إني لأضحك ببلاهة عجيبة كلما تخيلت وجهك العزيز وقد استحال إلى علامة استفهام ضخمة…. ولكن ثق أنك لا تفضلني على الرغم من قذارتي إلّا بشيء واحد وهو أني أحيا عارياً.. بينما تحيا ساتراً ذاتك بألف قناع.. أنصحك أن لا تقدم على قراءة هذا الديوان إذا كنت تخشى حقيقتَك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك».
نحن نستعيد إذن، في «قصائد عارية»، حسين مردان، كشاعر ملعون، مرَضي، بل كشاعر رجيم، بل كشاعر شيطاني، وأفكاره أكبر من صياغاته، لأنَّ قصائدَه بدايات غضة وضعيفة، غالباً ما كان يسعفها بمقدّمات نثرية… وكأنه يرغب في تقديم الفكرة على الصيغة، هنا سبب ضعفه… أعني سبب عدم تألق هذه الأشعار مع الزمن، على خلاف ما هي عليه أشعار أبي نؤاس الحسن بن هانئ وأشعار بودلير وحتى لوثر يامون.
Leave a Reply