وليد مرمر
من الشائع أن «فرانكشتاين» هو المسخ أو الوحش الذي «خلقه» طالب الكيمياء فـي رواية «ماري وولستونكرافت شيلي» الإنكليزية. لكن الحقيقة أن «فكتور فرانكشتاين» ليس إلا طالب الكيمياء الذي خلق الوحش/المسخ الذي لم يوضع له اسم فـي الرواية وذلك ربما احتقاراً من صانعه له.
خلال أحداث الرواية لا يستطيع المسخ التأقلم مع من حوله بسبب شكله القبيح لذا يعمد إلى الإنتقام من «خالقه» بأن يقوم بقتل خطيبته «إليزابيت» وأخيه «وليام» إضافة لاثنين من معارفه.
هذا كان خبر فرانكشتاين وصنيعه فـي العهد الجورجي الذي سبق العهد الفكتوري. أما فـي عصر «ما بعد الحداثة» الذي نعيشه، فلقد تم صناعة مسخ من نوع آخر. مسخ اسمه «داعش». والمشترك بين المسخين أن كليهما انقلب على صانعه وارتكب جرائما ضده.
المسخ الداعشي يرتدي مسوح الإسلام نفاقا ويتشدق بخطاب متأسلم كذبا. وهو، كخوارج النهروان، يرفع راية الإسلام ليس إلا… للقضاء على الإسلام. المسخ الداعشي قتل الأبرياء وشرد الآمنين ودمر دور العبادة وخرب الأماكن الأثرية وأحرق المخطوطات التاريخية ونهب المتاحف ونكل بالأقليات وشوه الحضارة وطمس الهوية… وكل هذه الفظائع اقتٌرفت… باسم الإسلام! عجباً أوليس الإسلام مشتقا من السلم والسلام فـيكف لهكذا مسخ أن يدعي انتماءه للإسلام؟!
إن نسبة «داعش» للإسلام كنسبة «مطاردي الساحرات» إلى الديانة المسيحية. أولئك الذين أبادوا ما يقدر المؤرخون بأنه قارب النصف مليون ساحرة، أو كل من يُشتبه بها أنها ساحرة، وذلك عقب العصور الوسطى فـي أوروبا. وقد اقتُرفَت تلكم الجرائم «دفاعاً» عن المسيحية بعد أن أُلصق بالساحرات مختلف التهم من قبيل إفشاء الأمراض والتضحية بالأطفال وعبادة الشيطان وما شابه.
نعم لقد ادعى «مطاردو الساحرات» أنهم حماة المسيحية والمدافعين الأشداء عنها، وكذلك يدعي المسخ الداعشي أنه ممثل الإسلام الوحيد فـي هذا الكون وأن «الآخر» كل «آخر» ولمجرد اختلافه معه فـي أبسط الفروع، هو كافر زنديق مرتد مباح العرض والمال والدم!
لقد صنعت أروقة المخابرات النسخة الأولى من هذا المسخ فـي أفغانستان أبان الغزو السوفـياتي (القاعدة). وتم صناعة نسخة أخرى معدلة حسب متطلبات الوضع الجيوسياسي فـي العراق وسوريا وهي «داعش».
إن حرب التحالف الدولي ضد «داعش» هي أكبر مهزلة نشهد فصولها يومياً. ففـي مقارنة مع حروب سابقة شنتها الولايات المتحدة تبدو واضحة مدى عدم جدية، بل عبثية هذه الحرب المزعومة. لقد شنت الولايات المتحدة ما كان يقارب معدله ألف غارة جوية يومياً فـي حربي العراق الأولى والثانية (١١٠٠ غارة يوميا عام ١٩٩١)(و٨٠٠ غارة يومياً عام ٢٠٠٣). كما شنت ما يقرب من ٨٠ غارة يومياً ضد الصرب عام ١٩٩٩ و٧٥ غارة يوميا فـي أفغانستان عام ٢٠٠١. أما فـي حرب التحالف الدولي ضد «داعش» والذي تقوده الولايات المتحدة، فهي تشن يومياً سبع غارات جوية فـي سوريا والعراق معا! (٤ فـي سوريا و٣ فـي العراق).
ليس خفـيا أن «داعش» تدير شبكة كبيرة ومعقدة من إنتاج وتكرير وبيع النفط بعد استيلائها على العشرات من حقول النفط والمصافـي فـي العراق وسوريا. ويُصدر هذا النفط عبر الطرق البرية و«الآمنة» إلى تركيا عبر تجار محليين وأجانب حيث يباع إلى شركات عالمية معروفة. ولعل هذا ما كان يلمح إليه بوتين فـي قمة العشرين عندما قال إن «داعش تُموَل من ٤٠ دولة البعض منها يشارك فـي قمة العشرين»! وأضاف بوتين متهكما: «لقد أظهرتُ للزملاء (المشاركين فـي قمة العشرين) صوراً ملتقطة من الفضاء ومن الطائرات والتي تبين بوضوح حجم التجارة غير المشروعة فـي النفط والمنتجات النفطية». وأردف بوتين أنه «من على ارتفاع 4000 إلى 5000 متر يمكن رصد قوافل النفط تمتد لعشرات الكيلومترات حتى إنها كانت تمتد إلى ما وراء الأفق».
هذا هو وحش «داعش» الفرانكشتايني الذي صنعته بعض الدول التي تدعي الآن شرف محاربته.
والمضحك المبكي أنه حين يُسأل بعض المسؤولين الأميركيين عن سبب عدم تعرض آبار نفط داعش للقصف الأميركي يجيبون تارة بأن أميركا لا تريد تلويث البيئة بقصف المنشآت النفطية، وتارة أخرى بأن أميركا تريد الإبقاء على هذه المنشآت كي يتبقى لمن يرث الأسد قسطا من ثروات سوريا!
لكن، وبعد غزوة باريس، وبسحر ساحر،، هاجمت الطائرات الأميركية قوافل «داعش» النفطية لأول مرة والتي تمتد «كالأنابيب» الى داخل الأراضي التركية.
فقد نشرت «نيويورك تايمز» مواقف مسؤولين أميركيين حول «تكثيف الضغوط على داعش» معلنة أن «طائرات الولايات المتحدة هاجمت يوم الإثنين الماضي للمرة الأولى مئات الشاحنات التي تستخدمها مجموعات متطرفة لتهريب النفط الخام الذي تم إنتاجه فـي سوريا. ووفقا للتقديرات الأولية، فقد تم تدمير 116 شاحنة فـي الهجوم الذي وقع قرب دير الزور، وهي منطقة فـي شرق سوريا وتسيطر عليها «الدولة الإسلامية». وقد نفذت الغارات الجوية أربعة طائرات هجوم A-10 وطائرتا AC-130 ومقرها فـي تركيا».
للأسف فإن هذا الهجوم -على أهميته- يبدو أنه تكتيك مرحلي أكثر منه تغيير استراتيجي فـي قواعد اللعبة. وهو قد جاء كُرمى لعين الحليف الأوروبي الذي ما زال يعيش تحت صدمة الهجوم الإرهابي الذي تعرض له. أو… ربما أيقن الأميركيون أن خيوط «داعش» قد بدأت تتفلت من أيديهم فعمدوا إلى العمل على «احتوائها» بجدية؟! ولكن الحقيقة أن احتواء داعش لا يمكن أن يتم من غير التعاون مع سوريا وروسيا وإيران.
منذ يومين، وبعيد هجمات باريس، طلبت فرنسا من الأسد معلومات استخباراتية حول غزوة باريس فرفض تسليملها لها مشترطا تطبيعا للعلاقات السياسية كمقدمة لإعادة العلاقات الأمنية. والأسد محق فـي ذلك. فكيف لدولة تدعم الإرهاب ضده أن تسأله مشاركتها فـي حربها ضد الإرهاب؟! أم هل أصبح الإرهاب مقبولاً فـي مكان ومنبوذاً فـي آخر!
لقد نجحت «داعش» فـي تفجيري برج البراجنة وباريس فـي عولمة الإرهاب وهذا ما لم يستسفه الغرب بعد. لا يمكن بعد الآن مقاربة الإرهاب بمكيالين مختلفـين. إن إرهاب الدواعش فـي سوريا ولبنان وباريس هو واحد لا يتجزأ. وهو من الخطورة بمكان يتحتم معه استعمال كافة الأدوات المتاحة لمقارعته. أن «داعشستان» تمتد على عشرات آلاف الكيلومترات بين الموصل و الرقة ولديها كل مقومات الدولة، من الأيديولوجية، إلى المصادر المالية والاعتراف الدولي الضمني. فكيف يمكن الإدعاء أن هناك تحالفاً دوليا ضد «داعش» فـيما لا تزال مقاربتنا لإرهاب «داعش» انتقائية، ندعمه ضمنيا فـي مكان، ونشجبه فـي مكان آخر!
فـي رواية فرانكشتاين لم يقض فـيكتور فرانكشتاين على المسخ، لكنه، ورغم إلحاح المسخ، رفض صنع حبيبة من نسخة تنقذه من وحدته القاتلة. وبعد موت فـيكتور فرانكشتاين تشتد أزمة المسخ الوجودية فـيعزم على الإنتحار. وفـي القطب الشمالي، يعتلي مركباً صغيراً يمخر به المياه بين جبال الثلج ثم يختفـي فـي الظلمات.
لن يتخلص العالم من داعش والإرهاب المتأسلم إلا بعد تجفـيف مصادر التمويل لهذه الجماعات وإقفال مدارسها الفتنوية ومنابرها التحريضية ومساجدها «الضرارية». عندها فقط ستختفـي «داعش» فـي دياجير التاريخ تماما مثل مسخ فرانكشتاين!
Leave a Reply