الخطاب الديني فـي ديربورن
يشتكي البعض من علمائنا الروحيين، أصحاب السيادة وأصحاب السماحة من قلة الحضور للمحاضرات والمناسبات الدينية، خصوصاً في شهر رمضان المبارك. على حسب رأي العلماء الأفاضل، يُفضل المسلمون البقاء في المنازل ومشاهدة التلفزيون ومتابعة المسلسلات أو الخروج والسهر لساعات متأخرة من الليل خصوصاً الشباب من الجالية.
قد يكون من القول أعلاه بعض الصحة. لكن الحقيقة، إنه ليس الجميع من مدمني التلفزيون. أعلم الكثيرون من الناس يصلون ويتعبدون ويقرؤن القرآن في بيوتهم، في غياب الحافز الذي يدفعهم لترك منازلهم، بعد يوم عمل طويل والذهاب إلى دور العبادة، وما أكثرها في ديربورن، لأنهم يعلمون سلفاً ما سوف يقوله العالم أو رجل الدين.
السامع والحاضر لمحاضرات، البعض من السادة والشيوخ وأصحاب العمائم الأفاضل من علماء الدين، ذاكرة ذلك السامع والحاضر لا تخطئها. فهي خطابات ومحاضرات مفصّلة، تعاد وتكرر حسب كل مناسبة دينية. للأسف تستنزف الكثير من الوقت، ورجل الدين المحاضر يمط ويطوّل في القول والشرح الممل لمسائل أبعد ما تكون عن الواقع والمعاناة اليومية التي يحياها أبناء الجالية هنا في الغربة. أحياناً تتهم نفسك بالغباء وقلة الفهم عندما تسمع محاضرة عن الغيب والكون وظواهره، وكيف الله سبحانه وتعالى بدأ خلق الأرض والسماء، ورغم إن هذه المعلومات يعرفها ويدركها التلميذ في الصفوف الإبتدائية، وقد تكون خارج إدراك وفهم الأهل أو الجيران الكبار في السن الذين تبرعت وأخذتهم معك إلى الجامع، هذا عدا عن تكرار أحاديث وأقوال مأثورة عن الأئمة: إنه من قال سبحان الله أو أستغفر الله سبعون مرة، أو قرأ حرف واحد من القرآن، يغفر الله ما تقدم وما تأخر من ذنبه. إضافة إلى سرد القصص والمواعظ والمآثر التي ما يفتأ أصحاب السيادة العلماء أو المساعدين لهم يكرورها علينا عن الأئمة ومآسيهم عليهم السلام جميعاً. ولا شك أن ذكر أولئك الأئمة العظام شيء مبارك ومقدس، لكن في الحقيقة نحن نحيا في حياةٍ معاصرة قاسية، محاصرين بالعذاب والألم. وأنت تسمع لتلك المحاضرات الدينية الرتيبة، تشعر بالأسى والأسف، على هدر وقتك ووقت العالم الديني ذاك، ولا يخطيء شعورك أنك تتعامل مع موظف عادي يؤدي وظيفته برتابة وملل، منتظراً إنتهاء وقت العمل بتأففٍ وكأنه يربحك جميلاً عظيماً وهو يقرأ ويعيد كلام المحاضرة المنتهي صلاحيته قبل أن تهجر وطنك بسنين عديدة، ودون أن يكلّف نفسه بمتابعة ما يجري وما يدور حواليه من أمور تهم حياة الجالية. وقد تلوم رأسك الفارغ الذي أصدر أمراً لرجليك لتحملك على ترك البيت والمجيء إلى الجامع من أجل إغتنام البركة والإيمان وسماع الكلمة الطيبة، التي تؤتي ثمرها كل حينٍ، لتساعدك وتؤازرك على مرارة الغربة، للأسف فلا تجد ولا تسمع تلك الكلمة أو الموعظة.
بدون أدنى شك، إن الإسلام دين الله الحنيف الخالد، وهو ليس جزء من التراث وإلا كنا نضعه في سياق التاريخ. فيا حبذا لو تنازل البعض من رجال الدين والتحدث إلينا ولامسوا مشاكلنا وهمومنا، وسألونا عما نعانيه ونقاسيه في أيامنا، نحن الرعية، المسلمون الضعفاء، البسطاء المتعطشين للكلمة الصادقة. لماذا لا يكون الجامع أو المسجد أو المركز الديني مكانا للتواصل، للنقاش وسماع الآراء، آراء الناس، رجال ونساء، شابات وشباب، بدل أن يكون مكاناً لإلقاء المواعظ والأوامر والنواهي فقط، وتهديدنا بالثبور وعظائم الأمور لكل تقصير في العبادات؟ لماذا لا تكون العلاقة مباشرة بين الإمام والناس متخطية تلك البطانة والحاشية المحيطة به أينما حلّ أو دُعي إلى حفلات الخطابة أو التكريم أو ولائم الطعام وما أكثرها. لأنه في أحيان كثيرة، تلك الحاشية من النافذين والوجهاء في الجالية، والبعض من أصحاب الكروش البارزة، تكون عائقاً وحاجزاً بين البسطاء ورجل الدين، بدل أن تكون تلك الحاشية عيون وآذان السيد أو الشيخ لتنقل إليه هموم وآلام ومعاناة الجالية وما أكثرها هذه الأيام، وتجعله يعلم -أي رجل دين- ببعض التصرفات التي يقوم بعض أفراد الجالية والتي لا تمت للإسلام بصلة.
لن يفاجأ علماؤنا أصحاب الفضيلة من السادة والشيوخ، وأشك إنهم لا يعلمون، إنه هناك قوى عالمية ومحلية مسخرة لإضعاف التدين لدى أولادنا الشباب والشابات، من خلال الطعن في ثوابت الدين وغرس بذور الشك في عقولهم، لخلخلة الإنتماء الديني الإسلامي عبر حملات منسقة ومنظمة، مستخدمين كل وسائل الإعلام والإعلان وتجنيد أناس متخصصين وعلى درجات عالية من التعليم وإتقان اللغات. كل ذلك يستخدم لتحقير الدين الحنيف والنيل من النبي محمد (ص) والقرآن الكريم وشتمه ووصفه بأقبح الصفات وإفراغ العقيدة الإسلامية من كل بركة ومحبة وسموّ روحي. كل هم تلك المنظمات إثبات أن الدين الإسلامي ما هو إلا حركة أو ثورة عبر التاريخ ولهم الحق في وضعها تحت أقذع الصفات بحجة حرية التعبير والرأي. كل ذلك يجري ويكرر على أسماعنا كل يومٍ وكيف التفتت أعيننا، أما علماؤنا الأفاضل، الأجلاء، كل همهم تكرار مناقب ومآسي أهل بيت النبوة عليهم السلام دون أن يتعبوا أنفسهم لمواكبة العصر وما يحدث فيه، ودون السعي بالإرتقاء بالخطاب الديني لخلق صلة متينة بين جيل الشباب والمراكز الدينية ممثلة بالقيادات الروحية ومن يحيط بهم من القيادات الإجتماعية، أصحاب السعادة والفخامة، ذوي المراكز والمناصب، العاجزين عن خلق ذلك المناخ الصحي والسعي والبحث عن كيفية مقاربة الجامع والمسجد للأجيال الجديدة، بهدف جذب إنتباهم وأعدادهم لآداء دور ما للنهوض بالجالية، وذلك عبر ترسيخ الإيمان بالدين وتعزيز الثقة في نفوسهم وعدم الشعور بالدونية والخجل كونهم ينتمون للدين الإسلامي، وتحصينهم ضد فيروسات التعصب والتخاصم والتنافس بين أهل الجالية الواحدة، وعدم الإكتفاء بجعل الجامع مكاناً للعبادة فقط وإقامة العزاء والنواح وذكر المآسي الدينية والحث على الزهد في هذه الحياة الدنيا.
هذه اللقاءات والمحاضرات بين رجال الدين والجالية، تخلق قوى إيجابية وقدرة وثقة بين الجميع. حتى يستطيع الواحد منا، نحن المسلمون، الإجابة عن أي تساؤل حول الدين الإسلامي في أي مكان يتواجد فيه. ولا يتم ذلك إلا بإعطاء الفرصة للجميع وخلق مساحة من الحرية وإيجاد الوقت لكل الأجيال وخصوصاً الشباب لسماع آراءه وإنتقاداته ولا يكون التعبير عن العقيدة الإسلامية محصوراً في دائرة المراجع والولاة وأصحاب العمائم ممن لديهم تصريحات أو أذون من المراجع بالفتوى والخطب الدينية.
كل ما نرجو الإلتفات إليه، أن الدين الإسلامي نما وترعرع في الجوامع والمساجد عبر إلتقاء علماء الدين مباشرة بالناس وسماع آرائهم وإنتقاداتهم، والتفاعل الإنساني بين الطرفين، وهذا جل ما نفقده في المحاضرات والخطابات الدينية هنا في سواء في شهر رمضان أو غيره.
وأنا أدرك وأعلم أن رجل الدين، سواء كان سيداً أو شيخاً، هو بالتالي انساناً، ولديه التزامات ومشاغل في حياته. لكن كل الرجاء منه محاولة التقرب من الناس العاديين الذين يريدون مصلحة الجالية، وإيجاد الوقت الكافي لمواكبة ما يجري في الواقع وجعل الخطاب الديني شفافا وملامسا لاحتياجات الناس.
Leave a Reply