كم المسافة شاسعة بين 22 شباط (فبراير) 1958 و22 شباط 2012. وأمر اتّساع المسافة لا يتوقف فقط على البعد الزمني ومرور أكثر من خمسة عقود على إعلان الوحدة المصرية-السورية عام 1958، بل المسافة بعيدة جداً من حيث اختلاف ظروف وواقع هذين البلدين، كما هي في عموم الأمّة العربية، بين ما كانت عليه من تضامن ووعي وآمال، وما هي عليه الآن من تخبّطٍ داخلي وبحثٍ عن الهويّة وخوفٍ على المستقبل.
من عاشوا تلك الفترة الزمنية الغابرة أو بعض آثارها، في حقبة ستّينات القرن الماضي، يدركون هذا الفارق الكبير بين ما كان عليه العرب وما وصلوا الآن إليه. لكن البعض قد يعتبر أنّ الحديث الآن عن تجربة الوحدة المصرية-السورية هو مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة الآن في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، والهدف منها ليس إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون “الدولة اليهودية” نموذجاً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.
هو “زمنٌ إسرائيلي” نعيشه الآن، بعد الانقلاب الذي حدث على “زمن القومية العربية” حين كانت مصر، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، طليعته. فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب “حوادث” و”أحاديث” طائفية ومذهبية وعرقية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها. هو “زمنٌ إسرائيلي” الآن على مستوى أولويّة الصراعات في المنطقة، إذ جرى تهميش “الصراع العربي-الصهيوني”، وتنشيط الصراعات الأخرى في عموم “الشرق الأوسط”، بحيث ضاعت معايير “الصديق” و”العدو” وطنياً وإقليمياً ودولياً، وأصبح “المقاومُ” مُداناً، والمساندُ للعدوِّ “مرجعيةً إنسانية” مطلوبٌ تدخّلها العسكري لحلِّ أزماتٍ داخلية!.
فاليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كانت عليه مصر وسوريا والعرب قبل أكثر من خمسين عاماً.. اليوم هوت “الهويّة العربية” لصالح مستوى “الانقسامات الوطنية الداخلية”، اليوم تزداد الصراعات العربية بينما تستمر مسيرة “التطبيع” والحرص على التفاوض مع إسرائيل! فما يحدث اليوم لا ينفصل عمّا حدث بالأمس القريب من أولويّة الحرص على الحكم لا على الوطن، وحين تحقّقت في المنطقة العربية، إثر المعاهدات مع إسرائيل، أهدافٌ سياسية كانت مطلوبةً من حرب 1967 إسرائيلياً ودولياً، وقد حالَ جمال عبد الناصر دون تحقيقها عقب الهزيمة حينما رفض استعادة الأرض المحتلة عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي، فجاء مِن بعده من فعل ذلك بثمنٍ بخيس…
رحم الله جمال عبد الناصر الذي كان يكرّر دائماً: “غزَّة والضفَّة والقدس قبل سيناء.. والجولان قبل سيناء” والذي أدرك أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتدّ في العمق الإفريقي. الآن، يرى البعض في المنطقة العربية الحلَّ في العودة إلى “عصر الجاهلية” وصراعاتها القبلية، ويستهزئون بالحديث عن حقبة “الخمسينات” التي ولّت!!. وبعضٌ عربيٌّ آخر يرى “نموذجه” في الحل بعودة مصر والبلاد العربية إلى مرحلة ما قبل عصر ناصر، أي العقود الأولى من القرن العشرين التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على الشرق! بينما لا يجوز برأي هؤلاء الحديث مجدّداً عن “العروبة” وعن مرحلة ناصر وتجربته، وعن قيمه وإنجازاته، وعن الأهداف التي سعى لتحقيقها في مصر والمنطقة العربية.
دولة الوحدة عام 1958 لم تكن حصيلة ضمٍّ قسري أو غزوٍ عسكري، أو طغيانٍ سياسي جغرافي من دولةٍ عربية كبرى على دولةٍ عربية صغرى مجاورة. كذلك لم تكن دولة الوحدة نتيجة انقلابٍ عسكري في سوريا، ولا بسبب وجود حزبٍ سياسي “ناصري” فيها قام بالضغط لتحقيق الوحدة مع مصر عبد الناصر.
أيضاً، لم تكن وحدة مصر وسوريا بناءً على رغبةٍ أو طلبٍ من القاهرة، بل كانت حالةً معاكسة، حيث كانت القيادة السورية برئاسة شكري القوتلي (والتي وصلت للحكم في سوريا نتيجة انتخابات شعبية في نظام ديمقراطي برلماني)، هي التي تلحّ في طلب الوحدة مع مصر بناءً على ضغوطٍ شعبية سورية.
هكذا كانت مصر وسوريا والأمّة ككل في نهاية عقد الخمسينات، وما تخلّل تلك الحقبة الزمنية المشرّفة في تاريخ العرب المعاصر من هزيمةٍ لعدوان ثلاثي على مصر، ومن تأميم لقناة السويس، ومن دعم لحركات التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار، ومن اعتزاز بالهويّة العربية ومضامينها الحضارية.
أمّا اليوم، فالعرب هم بلا دور مصري فاعل، وأرضهم أصبحت مسرحاً لصراعات نفوذ إقليمي ودولي، وغالبية أوطانهم تعاني من استبداد سياسي وظلم اجتماعي، وهم أنفسهم يختلفون حتّى على الهويّة الوطنية وعلى ما فيها من تعدّدية داخل المجتمع الواحد، فكيف بالهوية العربية المشتركة؟!. فأين كان مكمن المشكلة في تجربة “الجمهورية العربية المتحدة”، هذه التجربة الوحدوية العربية الفريدة التي جمعت مصر مع سوريا، ثم تعثّرت وحدث الانفصال بعد أقلّ من ثلاث سنوات؟
حتماً لم تكن المشكلة في المنطلقات والغايات، بل كانت في الأساليب التي اتّبِعت خلال تجربة الوحدة. فكل عمل إنساني ناجح (على مستوى الأفراد والجماعات) يشترط تكاملاً سليماً بين “المنطلق والغاية والأسلوب”، وهذا ما لم يحدث في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، إذ أنّ المنطلق كان سليماً بحصول الوحدة بإجماعٍ شعبي في البلدين وبضغطٍ شديد من الجانب السوري. كذلك الغاية الوحدوية كانت سليمةً في كلّ أبعادها، لكن العطب كان في الأساليب التي استخدمت من أجل تحقيق الوحدة وفي سياق تطبيقها.
طبعاً، لم يحدث الانفصال حصراً نتيجة عوامل داخلية وسلبيات أساليب التجربة، بل كان أساساً بتحريضٍ خارجي وبدعمٍ كبير من القوى الدولية الكبرى، التي كانت تتصارع فيما بينها بين كتلةٍ شرقية وأخرى غربية، لكنها اتّفقت على محاربة “الجمهورية العربية المتحدة”، ولأسبابٍ مختلفة فيما بينها.
ولم تكن تلك المرّة الأولى التي تلتقي فيها الدول الكبرى على منع وحدة مصر وسوريا، فقد جرى التآمر أيضاً على دولة محمد علي باشا، التي امتدّت في القرن التاسع عشر من مصر إلى سوريا، من قِبَل قوًى دولية متصارعةٍ فيما بينها غير أنّها متّفقة على أن تبقى مصر حصراً في حدودها.
أيضاً، كانت “الجمهورية العربية المتحدة” أكبر الأخطار المحدِقة بـ”الدولة الإسرائيلية” الحديثة النشأة آنذاك، فقد وصف بن غوريون دولة الوحدة بأنّها أشبه بالكمّاشة التي ستقتلع إسرائيل من الوجود.
وإذا كانت جريمة الانفصال التي حدثت عام 1961، والتي كانت جريمةً سياسية بحقّ الأمّة ومستقبلها، وكانت أيضاً عاملاً مساعداً على حدوث هزيمة حرب عام 1967، قد حصلت نتيجة خطايا بعض القيادات والأساليب فقط، رغم حسن المنطلقات والغايات، فكيف سيكون الحال الآن ومستقبلاً، إذا كانت السلبيات قائمةً في القيادات وفي الأساليب والغايات والمنطلقات؟ وكيف إذا لم يقتصر الأمر على المسؤوليات الداخلية فقط، بل طال قوًى خارجية فاعلة في المنطقة، تنسج الآن خيوط أثواب هُويّات جديدة للأوطان والحكومات والشعوب معاً؟!.
إنّ واقع الحال العربي الراهن ابتعد كثيراً عن أماني الوحدة بين أوطانٍ عربية مختلفة، ويقترب كثيراً من تفكّك الأوطان القائمة نفسها. ولعلّ ما حدث في السودان من قرارٍ دولي قضى بفصل جنوبه عن شماله، لخير مثال على المحاولات الإقليمية والدولية من أجل تغيير خرائط المنطقة وإعادة السيطرة الكاملة على أجزائها. لقد كانت حقبة الخمسينات من القرن الماضي حقبة تحرّرٍ وطني وقومي ودعوة لتوحّد أقطار وشعوب الأمّة الواحدة. الحقبة الآن، رغم ما فيها من آمال كبيرة حصيلة الحراك الشعبي العربي الواسع، هي حقبة محاولات الهيمنة الأجنبية وتحقيق التشرذم الداخلي لصالح الطامعين بهذه الأمّة.
الآن، ربما يجب أن نردد ما قاله جمال عبد الناصر بعد حدوث الانفصال: “ليس المهم أن تبقى الجمهورية العربية المتحدة بل المهم أن تبقى سوريا”.
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة صياغة مشروع وطني عربي شامل، تكون الديمقراطية والهوية العربية ورفض التدخل الأجنبي ونبذ أسلوب العنف في المجتمعات، بمثابة أركان متكاملة فيه بحيث لا يجوز أخذ أحدها دون الآخر. فالعروبة، كهويّة انتماءٍ مشترَك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده، رغم كلّ ما يجري الآن من مظاهر التخلّي عنها.
Leave a Reply