كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أدى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الجاري، إلى تأجيل إعلان حكم المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من 7 إلى 18 آب. وفي حين أن الحكم جاء هزيلاً ودون التوقعات، إلا أن التأجيل بحد ذاته، أكد مرة أخرى على أن المحكمة الدولية ليست إلا أداة سياسية صرفة في إطار مسلسل مستمر من استهداف المقاومة.
المحكمة التي كلّفت لبنان نحو مليار دولار، والتي تأسست عام 2009 وانطلقت في 2014، لمعرفة «الحقيقة» بشأن جريمة اغتيال رفيق الحريري عام 2005، خلفت على مدار السنوات انقساماً داخلياً واضحاً في لبنان حول مدى تسييسها من قبل الأطراف الدولية.
وقد بدأت الشكوك حيال المحكمة ودورها منذ بدء لجنة التحقيق نشاطها برئاسة المحقق ديتليف ميليس، وما تبع ذلك من ظهور شهود الزور، مثل محمد زهير الصدّيق وهسام هسام وميشال جرجورة وآخرين ممن ثبت عدم صدقية شهاداتهم التي فبركت لتوجيه الاتهام إلى النظام السوري، وما رافق ذلك من اعتقال قادة الأمن الأربعة في لبنان (جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان) والذين تمت تبرئتهم من أية مسؤولية في جريمة الاغتيال بعد حبسهم ظلماً لمدة أربع سنوات
وبعدما تمّت تبرئة الرئيس السوري بشار الأسد، والقادة الأمنيين في سوريا ولبنان، سرعان ما انتقل الاتّهام إلى «حزب الله»، بزعم كشف اتصالات لعناصره في محيط موقع الجريمة، فطال الاتهام كلاً من مصطفى بدرالدين (توفي في سوريا عام 2016) ولم يثبت تورطه بالاغتيال، وسليم عياش الذي اعتبرته المحكمة بقرارها مذنباً وحملته مسوؤلية قتل الحريري، فيما تمت تبرئة كل من أسد صبرا وحسن مرعي وحسين عنيسي لعدم وجود أدلة في هواتفهم الخليوية التي اعتمدت كقرائن في التحقيق والمحاكمة.
وفي المحصلة، أسقطت المحكمة الدولية في قرارها، الاتهام عن النظام السوري وقيادة «حزب الله» مما شكل خيبة لقوى «14 اذار» والدول المعادية لمحور المقاومة، مع ترك إدانة عياش كوسيلة لإبقاء تورط «حزب الله» بمقتل الحريري قائماً، ولو شعبياً.
الاستغلال السياسي
بعد ساعات على اغتيال الرئيس الحريري، في 14 شباط 2005، بدأ توظيف الجريمة سياسياً باتهام سوريا وصولاً إلى دفعها للانسحاب من لبنان بموجب القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004، والذي طالب بخروج القوات السورية، ونزع سلاح الميليشيات (حزب الله)، وعدم تمديد ولاية رئيس الجمهورية السابق إميل لحود عبر تعديل المادة 49 من الدستور.
وكان قد تمّ الربط بين عملية الاغتيال والقرار 1559، الذي تنصّل منه الحريري بعد اتهامه بتحريض الرئيس الفرنسي جاك شيراك للسير به بالاتفاق مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي كان يخوض مشروعه لإقامة «الشرق الأوسط الجديد».
تقاطعت مصالح واشنطن وباريس، مع مصالح أطراف إقليمية ولبنانية، حيث كان قد تشكل «لقاء قرنة شهوان» برئاسة البطريرك نصرالله صفير عام 2002، تلبية لنداء المطارنة الموارنة الذين دعوا إلى انسحاب القوات السورية ونزع أي سلاح غير سلاح الجيش اللبناني، بما في ذلك سلاح المقاومة.
تلاقى على هذين الهدفين، البطريرك صفير مع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط الذي كان قد طرح شعار «هانوي أم هونغ كونغ؟»، بعد أربعة أشهر على تحرير الجنوب في 25 أيار 2000.
تقارب جنبلاط–صفير، وخلفهما رفيق الحريري مستتراً، ساهم لاحقاً في تشكيل حلف موسع (14 آذار) ضم العديد من أقطاب السياسة في لبنان، بمواجهة تحالف مناصر لسوريا بقيادة «حزب الله» (8 آذار)، فيما تبين أن الثلاثي السوري (عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان) الذين حكموا لبنان كانوا يخططون لانقلاب في سوريا، بمساعدة أطراف في لبنان، بغطاء من أميركا وفرنسا والسعودية التي تنصلت من تفويض دمشق بتنفيذ اتفاق الطائف بعد انتهاء الحرب الأهلية.
سلاح المقاومة
كان اغتيال الحريري، محطة لانتقال لبنان من تحت المظلة السورية، إلى الحضانة الأميركية في إطار مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي رأت إدارة بوش، بأن «حزب الله» يشكّل عائقاً أمام تنفيذه ولا بد من التخلص منه لحماية إسرائيل والثأر من تفجير السفارة الأميركية في بيروت، ومعسكر «المارينز» في العامين 1982 و1984، إذ أن تنامي قوة «حزب الله» بعد تحرير الجنوب أخد يشكّل تهديداً وجودياً متزايداً لإسرائيل، وأعاد توازن الرعب مع الكيان الصهيوني، بعد عدوانين فاشلين على لبنان في عامي 1993 و1996، فكانت حرب 2006، لإنهاء سلاح المقاومة، بعدما فشلت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة باستغلال الظروف التي تهيأت داخلياً لنزعه، فقامت «حرب تموز» ولم تقعد إلا بعد 33 يوماً مخلفة دماراً هائلاً وخسائر فادحة بالأرواح، لكنها فشلت في تحقيق الهدف بالقضاء على قوة «حزب الله».
ولم ينجح القرار 1701، الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي، في وقف تسليح المقاومة بعد صمودها العسكري في حزب تموز، وظل السلاح النوعي يصلها عبر سوريا وإيران، فكانت الحرب على سوريا في العام 2011، تحت غطاء ما سمي بثورات «الربيع العربي»، بهدف قطع شريان المقاومة ومحاصرتها، ومنع أية فرصة لقيام محور مقاوم للمشروع الأميركي يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
ومع فشل كل المحاولات السابقة لخنق المقارمة في لبنان والدول الداعمة كان لابدّ من ذريعة ما لتجديد الهجوم على سلاح المقاومة.
انفجار المرفأ
وقع انفجار مرفأ بيروت الغامض، ليشكّل لحظة سياسية يمكن استخدامها لإعادة التصويب على «حزب الله» عبر التضليل السياسي والإعلامي وفبركة الأخبار في محاولة واضحة لتوريط المقاومة بالكارثة التي ألمت بالعاصمة اللبنانية.
تلك النوايا ظهرت جلياً منذ اللحظات الأولى التي تلت الانفجار، وذلك عبر نشر معلومات مضللة، مثل أن العدو الإسرائيلي استهدف مخزن أسلحة تابعاً لـ«حزب الله» في المرفأ. لكن بعد نفي تل أبيب لأي دور لها في الانفجار، سقطت تلك الفرضية، غير أن محاولات توريط «حزب الله» بما جرى لم تتوقف، بل تواصلت حملات التضليل السياسي والإعلامي من أجل شحن المواطنين المصدومين ضد المقاومة، وتحميلها جميع الويلات التي تقع على لبنان، بزعم أنها تسيطر على الدولة بمرافقها وحدودها ومؤسساتها…
كذلك، توالت الضغوط السياسية باستقالة عدد من النواب، والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، بهدف سحب الأكثرية البرلمانية من «حزب الله» وحلفائه، وصولاً إلى دفع رئيس الوزراء حسان دياب إلى الاستقالة والمطالبة برحيل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهو السيناريو نفسه الذي اعتمد عام 2005، إبان «ثورة الأرز» عقب اغتيال الحريري، لكن قوى «14 آذار» طالبت حينها بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، بدعم من إدارة بوش الابن، ولو وفق القانون الانتخابي المعروف باسم «قانون غازي كنعان»، وذلك من أجل نيل الأكثرية النيابية، التي تأمّنت بتحالف رباعي بين حركة «أمل» و«حزب الله» من جهة و«تيار المستقبل» والحزب «التقدمي الاشتراكي» من جهة ثانية، وقد قبل به –آنذاك– «الثنائي الشيعي» لمنع وقوع فتنة سنّيّة–شيعية.
أما اليوم فيحاول الفريق الأميركي–السعودي في لبنان المكوّن من «الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» و«المستقبل» وقوى أخرى في «14 آذار»، بسماندة بكركي، على انتزاع الأكثرية النيابية من القوى الحليفة للمقاومة، عبر إجراء انتخابات نيابية مبكرة، والاستفادة من غضب الشارع وتراجع شعبية «التيار الوطني الحر» في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد، حيث أن تجريد التيار البرتقالي الذي غطى بـ«تفاهم مار مخايل» «حزب الله» مسيحياً سيكون كفيلاً بتغيير الموازين في البرلمان وفي المجتمع اللبناني.
وهذا ما تحاول أن تفعله بكركي اليوم، استكمالاً للدور الذي بدأه البطريرك صفير، عبر دعوة البطريرك الحالي –بشارة الراعي– إلى «الحياد»، الذي لا يمكن تفسيره، إلا بإسقاط السلاح ضد إسرائيل، حيث يبدو أن مهادنة بكركي للمقامة قد ولت بعد انحسار الحرب في سوريا، والتي كان «حزب الله» قد ساهم خلالها في حماية الوجود المسيحي بالمنطقة، وبالتالي لم يكن مقبولاً استهدافه من قبل المرجعية المارونية.
الاستغلال الأميركي
بات واضحاً، الاستغلال الأميركي لانفجار مرفأ بيروت، في مشهد مشابه لما حصل بعد اغتيال الحريري، إذ حضر مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل، وهو عمل سفيراً سابقاً في لبنان، ويعرفه جيداً، ليطرح بسط الدولة سلطتها على مرافئها وحدودها، وتوسيع عمل «القوات الدولية».
فواشنطن ترى أن اللحظة السياسية والشعبية في لبنان، مؤاتية لتعديل القرار 1701، ونقله إلى الفصل السابع، وهو لم يحصل أثناء العدوان الإسرائيلي صيف 2006.
ويلقى الطرح الأميركي تجاوباً لبنانياً واضحاً من قوى «14 آذار» التي يبدو أنها تسعى إلى تكرار مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، حين حضرت القوات المتعددة الجنسيات بعد مجزرة صبرا وشاتيلا.
فهذا مطلب لحلفاء أميركا في لبنان، الذين استبشروا خيراً، في قدوم البوارج والأساطيل الأميركية والبريطانية والفرنسية، علماً بأن المياه اللبنانية خاضعة للقرار 1701، وترابض فيها سفن ألمانية منذ سنوات لمراقبة السفن التي يشتبه بأنها محملة بالسلاح.
وبالرغم من ذلك، دخلت السفينة المشؤومة «روسوس» محملة بأطنان «نيترات الأمونيوم» عام 2013 تحت أعين الألمان، الذين تقع عليهم الإجابة على هذا السؤال للقضاء، مما يسقط ذريعة هيل، عن ضرورة السيطرة الدولية على الموانئ والحدود اللبنانية عبر تعديل مهام القوات الأممية ونشرها على الحدود الشمالية والشرقية، وهي مهمة يقوم بها الجيش اللبناني حالياً، بدعم تقني من بريطانيا.
فالاستغلال السياسي لانفجار المرفأ، يهدف من ضمن ما يهدف إليه، إلى إقفال الحدود مع سوريا كونها رئة المقاومة، ويأتي عبرها السلاح الدقيق والصواريخ بعيدة المدى التي تهدّد عمق الكيان الصهيوني، وتقيم معه توازن ردع، لا يمكن أن يقوم به الجيش الذي ترفض أميركا ودول أخرى تسليحه بوجه إسرائيل، وتكتفي بدعمه لأغراض داخلية.
Leave a Reply