«المعركة مع إيران مستمرة… وهي في أوجها». بهذه العبارة علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الحملة المزدوجة التي أطلقتها إسرائيل، عالمياً، ضد الجمهورية الإسلامية، بدءاً بمؤتمره المسرحي الشهير، قبل أسابيع، بشأن «القدرات النووية العسكرية» الإيرانية، وصولاً إلى اللعب بالنار في الجبهة السورية، لفرض معادلة ميدانية جديدة، عبر دق إسفين بين الإيرانيين والروس لسحب ضباط «الحرس الثوري» من جنوب سوريا.
لكنّ ما لم يقله نتنياهو، هو المأزق الكبير الذي يواجه هذه الحملة الشرسة، وحالة الإنكار التي تعيشها إسرائيل، في مواجهة التحوّلات الإقليمية والدولية الجديدة، والتي لم تعد معها تل أبيب قادرة، كما في السابق، على التأثير المباشر في السياسات الإقليمية والدولية، والذي باتت فيها إيران جزءاً لا يتجزأ من تقاطع المصالح على المسرح الأوراسي.
تصعيد إيراني
حالة الإنكار جعلت نتنياهو، قبل أسابيع، ينتشي بقرار دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بوصفه انتصاراً كبيراً، سرعان ما اتضح زيفه، بعدما اتخذت الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا والمانيا، مواقف غير مسبوقة في ابتعادها عن الموقف الأميركي، كما كانت الحال تقليدياً، ودفع بأنغيلا ميركل وإيمانويل ماكرون إلى تحويل البوصلة شرقاً، وهو ما تبدى خلال الزيارتين المثيرتين للانتباه، في توقيتهما وإطارهما، اللتين قاما بها إلى روسيا.
ولم يكن يكفي لإثبات الهزيمة الإسرائيلية سوى خطوة، اتخذتها إيران، قبل أيام، حين أعلنت الجاهزية لتفعيل أنشطتها النووية، والتلويح بزيادة تخصيب اليورانيوم، ما يعني انتقالها من موقع الدفاع إلى الهجوم في الملف النووي.
الملفت في الخطوة الإيرانية أنها جاءت في ظل تصاعد الضغوط من كل الأطراف في ملف الاتفاق النووي، ما يعكس قدرة الجمهورية الإسلامية على امتلاك هامش كبير من المناورة، في ظل تعارض المصالح الأوروبية والأميركية.
هذا الأمر برز بشكل جلي قبل أيام حين جددت الولايات المتحدة تهديداتها للشركات الأوروبية المتعاملة مع الجمهورية الإسلامية، بهدف ثنيها عن المضي في أنشطتها، وجعل العقوبات الأميركية فاعلة، خصوصاً بعد الفتور الأوروبي تجاه قرار ترامب، على النحو الذي ينذر بتحوّله، بعد أشهر، إلى مجرّد حبر على ورق، وهو ما تبدّى في موقف المفوضية بشأن ضرورة تشجيع الاستثمار في إيران كتأكيد على دعم الاتفاق النووي.
الملفت للنظر في هذا الإطار، أن الخطوة الإيرانية لقيت ما ما يمكن تسميته بـ«التفهّم» الأوروبي، فالرئيس الفرنسي على سبيل المثال أكد أن إعلان طهران عن تكثيف أنشطتها النووية لا يعني خروجها من الاتفاق النووي، داعياً إلى «الحفاظ على استقرار الوضع وعدم الانجرار لهذا التصعيد لأنه سيؤدي إلى أمر واحد: النزاع».
المثير للاهتمام أكثر أن كلام ماكرون جاء إثر محادثات أجراها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي انتقل من برلين إلى باريس، ثاني محطة له ضمن جولة أوروبية يقوم بها لتشجيع الأوروبيين على اتخاذ خطوات ضد إيران.
بطبيعة الحال، بدا واضحاً أن الجولة الأوروبية التي قام بها نتنياهو لم تكن، في نتائجها المرتبطة بالملف النووي الإيراني، عن طابع العلاقات العامة التحريضي، الذي يصعب أن يترك تأثيره على القرار الأوروبي، لا سيما الفرنسي والألماني، خصوصاً أن أمر استمرار الاتفاق النووي بالنسبة إلى القوتين الكبريين في الاتحاد الأوروبي، يشكل الفرصة الأهم لتحقيق النمو الاقتصادي وعاملاً مساعداً في تجنب الركود، وبالتالي الوقوع في أزمات كتلك التي عانى منها الاقتصاد العالمي قبل سنوات.
على هذا الأساس، لا يشككنّ أحدٌ في أن عصر الاستجابة الأوروبية التلقائية لإسرائيل قد ولّى، وأنّ الأوروبيين ليسوا في وضع يسمح لهم اليوم بالمخاطرة بإلحاق الضرر بشعوبهم، كرمى لعيني بنيامين نتنياهو الخبيثتين.
الجبهة السورية
كان طبيعياً أن يحاول نتنياهو أن يعوّض الخسارة الاستراتيجية المرتبطة بالملف النووي الإيراني، بمحاولة انتزاع موقف أوروبي بشأن الجبهة السورية.
هذا الاستجداء للموقف الأوروبي جاء في خضم فشل المساعي الإسرائيلية بانتزاع اتفاق يتصل بترتيبات أمنية في الجنوب السوري عبر الاستفادة من التفاوت بين بعض أولويات محور المقاومة وحليفه الروسي. ولكنّ القاصي والداني يعلمان أن أمراً كهذا لا يقرره الأوروبيون، وانما الروس والاميركيون حصراً، ولهذا بدا الحديث الأوروبي عن ضرورة العمل على سحب الوحدات الإيرانية من الجبهة الجنوبية مجرّد انتصار وهمي لا يمكن لبنيامين نتنياهو استخدامه سوى كورقة داخلية، يبرزها أمام خصومه في الحياة السياسية الإسرائيلية المهترئة.
ولا يبدو أن الحرص الإسرائيلي على تعزيز العلاقة مع روسيا، والذي تبدّى في اللقاءات والاتصالات المتواصلة على أعلى المستويات خلال الفترة الماضية، سيسمح بتحقيق تحوّل كبير في موقف موسكو، خصوصاً أن الموقف الروسي من الصراع في سوريا، وكذلك بالعلاقات مع إيران، محكوم بمعطيات أكثر حساسية تجعل من الصعب على الكرملين اتخاذ قرارات خطيرة لمجرّد إرضاء الإسرائيليين.
كذلك، لا يبدو أن المسعى الإسرائيلي لاستغلال بعض التباينات الطبيعية في مصالح روسيا وإيران وخياراتهما في سوريا، ودفعه نحو تناقض في المصالح، قد يؤتي ثماره، لا سيما أن السياسات الأميركية الأخيرة تجاه كل من موسكو وطهران ومعهما بكين، تجعل التحالفات والشراكات الدولية في أوراسيا تسير في مسار معاكس تماماً لطموحات الإسرائيليين، وهو ما جسّده تراجع الحديث عن تفاهمات روسية –أميركية في هذا الإطار، لا سيما أن موسكو ربطت الترتيبات في الجبهة الجنوبية بأمرين أساسيين: الانسحاب الأميركي من شمال سوريا، وجعل الجبهة الجنوبية تحت سيطرة الجيش السوري، بعد إخلائه من الفصائل المسلحة.
كل ما سبق يفسر الحالة الهستيرية التي تعيشها إسرائيل في هذه الأيام والتي لم يعد من إمكان لتفريغها، سوى في الطرف الأكثر ضعفاً اليوم، أي الشعب الفلسطيني الأعزل –وربما هذا ما يفسر تزايد الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة بشكل خاص خلال الآونة الأخيرة– أو نقل التحريض إلى الطرف الأكثر استعداداً لتصديق الأساطير الإسرائيلية بشأن «الخطر الإيراني»، والمقصود بذلك بطبيعة الحال الأنظمة الخليجية وفي مقدمتها النظام السعودي والتي تلقت قبل أيام دعوة مباشرة إلى الدخول في تحالف إسرائيلي–عربي (بحسب ما صرّح على الملأ وزير الاستخبارات الإسرائيلي إسرائيل كاتس).
في مطلق الأحوال، وامام سلسلة الخيبات، لا تمتلك إسرائيل اليوم سوى الاستمرار في التحريض، مع عدم استبعاد أن تتحول الهستيريا التي تعانيها إلى عنصر خطير يجعل قادتها يقدمون على ما هو أخطر، كأن يثيرون غضب الروس، عبر التهويل بضرب النظام السوري، بما يؤدي إلى انهياره وإسقاطه، وبالتالي استهداف الاستراتيجية الروسية على الساحة السورية… أو حتى الذهاب إلى التصعيد العسكري الذي قال نتنياهو عنه قبل أيام إنه «لا يزال مطروحاً على الطاولة»!
Leave a Reply