نبيل هيثم
«انتكاسة». هكذا ببساطة وصف رئيس اركان الجيش الاميركي مارتن ديمبسي سقوط مدينة الرمادي فـي ايدي تكفـيريي «داعش».
لكن نظرة سريعة على الخريطة العسكرية، وتحديداً فـي تلك البقع الرمادية الشاسعة، التي ترمز الى مناطق سيطرة «الدولة الاسلامية» فـي العراق، تظهر ان ما حدث فـي الرمادي، وقبلها فـي مناطق اخرى فـي الانبار، يتجاوز «الانتكاسة» ليصل حد الهزيمة للمقاربة الاميركية فـي الحرب على الارهاب.
وعلى طرف نقيض، ثمة فرضية لا يمكن استبعادها، وتبدو متطابقة مع المسار الذي تسلكه المنطقة العربية منذ بدء ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، والمقصود بذلك الانهيار الكامل للدول المركزية، والتي تبدو شكلاً ومضموناً تطبيقاً عملياً لفكرة «الفوضى الخلاقة»، التي بدأ تطبيقها منذ عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن.
وبصرف النظر عن هذه الفرضية او تلك، يبدو واضحاً من خلال تسلسل الاحداث، وردود الافعال المضطربة، سواء فـي بغداد او فـي واشنطن، ان سقوط الرمادي بهذه السرعة لم يكن فـي الحسبان.
ومهما قدّم من تفسيرات وتبريرات لسقوط مركز محافظة الانبار فـي ايدي مقاتلي «داعش»، ومهما حاول القادة العسكريون العراقيون والميدانيون التقليل من حجم هذا التطور وتداعياته، الا ان انسحاب اللواء الثامن فـي الجيش العراقي امام التكفـيريين بهذه السهولة، يمثل بالفعل انتصاراً ثميناً لتنظيم ابي بكر البغدادي، لما تمثله الرمادي من ثقل استراتيجي، باعتبارها ممر الامداد الرئيس للمقاتلين الاسلاميين بين سوريا والعراق.
ولعل الملفت للانتباه ان سقوط الرمادي يأتي فـي وقت يردد البنتاغون ان الجهاديين فـي «موقع دفاعي» بعد تسعة اشهر على بدء الحملة الجوية التي تنفذها طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة فـي سوريا والعراق.
والاهم من ذلك، ان سقوط الرمادي يشكل خرقاً للخطوط الحمر التي اوقفت «داعش» عند اكثر من جبهة، خلال الاشهر الماضية، خصوصاً ان السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية من قبل التنظيم المتشدد يجعل خطره على مسافة لا تتجاوز مئة كيلومتر عن قلب بغداد، ما يعني، بشكل او بآخر ان اولى العواصم العربية باتت فـي قلب العاصفة «الداعشية».
والاخطر من ذلك كله، ان سقوط الرمادي، الذي يجعل بغداد على تماس مع تنظيم «الدولة الاسلامية»، ربما يسمح للتكفـيريين بشن هجمات على كربلاء، ما ينذر باشعال فتنة شيعية-سنية تبدو الطريق معبدة لسلوكها، خصوصاً ان تقهقر القوات العراقية يعني من الناحية العملية ان قوات «الحشد الشعبي» – التي استغاثت بها حكومة بغداد واليوم ترحب بها الولايات المتحدة – ستدخل على خط المعركة ضد المتشددين (السنّة) فـي واحدة من اكثر المناطق خطورة فـي العراق، إن لم يكن فـي الشرق الاوسط كله.
ومن غير الواضح حتى الآن سبب هذه الهزيمة فـي الرمادي، وان كانت ثمة فرضيات عدّة يمكن الركون اليها لحصر الاحتمالات، وتفسير التداعيات المحتملة.
وثمة من يرى ان انهيار الجيش العراقي فـي الرمادي «مؤامرة» يراد من خلالها تأكيد ضعف القوات الحكومية وعدم قدرتها على مواجهة «داعش»، وتالياً إبراز دور «الحشد الشعبي»، وفرضه كأمر واقع فـي المعركة ضد تنظيم البغدادي، بعدما رفضته قطاعات واسعة فـي الانبار. لكن هذا الرأي، ومعظم من تبنوه هم من القيادات السنية، يبدو غير منطقي، اذا ما نظرنا الى المعطيات الميدانية والسياسية. فإذا كانت «المؤامرة» على هذا النحو، فكيف يمكن للحكومة العراقية – المتضررة الاولى من هذه الخطة المفترضة – ان تسلم الانبار لقائد اللواء الثامن، الذي سبق ان انسحب من كركوك امام هجمات «داعش»؟! والاهم، لماذا لم تساهم الولايات المتحدة، عبر طائراتها، فـي مؤازرة الجيش العراقي فـي مواجهة هذا المخطط الذي يفترض أن يكون ايرانياً، بحسب ما يقول اصحاب نظرية المؤامرة هذه؟
فـي المقابل، فإن مناصري «الحشد الشعبي» يقدمون نظرية مؤامرة مختلفة، عبر اتهامهم القوى الداخلية والاقليمية المتربصة بوحدة العراق، بالتعاون مع الولايات المتحدة، بالسعي نحو تقسيم العراق، وربما مناطق اخرى فـي المشرق العربي، خصوصاً ان سقوط الرمادي ترافق مع زيارات قام بها مسؤولون سنة الى الولايات المتحدة، فـي موازاة مطالب بتسليح عشائر الانبار.
وبصرف النظر عن صوابية هذه الفرضية او تلك، فإن ما سبق يقود بطبيعة الحال الى استنتاجات متباينة لتحديد المسار التي سيسلكه الصراع فـي العراق، وبطبيعة الحال فـي سوريا وباقي دول المنطقة العربية. فمن جهة، يمكن القول ان سقوط الرمادي يؤكد وجهات النظر التي قالت، منذ اليوم الاول لتشكيل «التحالف الدولي» ان الاستراتيجية الاميركية فـي محاربة «الدولة الاسلامية» فاشلة، او ان وراء هذا الفشل المعلن ما هو اخطر.
ولعل ما قاله المحلل الاستخباراتي الاميركي البارز روبرت بيير قبل ايام يؤكد وجهتي النظر بشأن «الهزيمة» و«المؤامرة» معاً.
المحلل المذكور، وغداة سقوط الرمادي، كان واضحاً فـي تعابيره، حين قال «اعتقد أننا فشلنا. (رئيس اقليم كردستان العراق) مسعود البرزاني كان فـي واشنطن قبل عشرة أيام، وقال للبيت الأبيض بحسب ما فهمته أنه إذا لم يتلقّ أموالا مقابل النفط فإنه سينفصل بإقليمه عن العراق، وبصراحة لا أرى أن العراق سيعود كما كان مهما ارسلنا من أسلحة وقدمنا الدعم الجوي».
يمضي بيير فـي تحليله قائلاً «معظم القادة العسكريين فـي داعش يعلمون ما يقومون به، فهم عسكريون سابقون بنظام البعث وقاموا بالماضي بقتل العديد من الأشخاص وإجراء عمليات تطهير عرقي لمناطق واسعة… لا أتوقع أن الحكومة العراقية ستتمكن من استرجاع الرمادي بسرعة، والبديل هو بإرسال قوات الحشد الشعبي والميليشيات الشيعية لاسترجاع المدينة، ولكن هذا سيكون بحد ذاته حماما للدم لأنه عندها سيكون السنة مقابل الشيعة ولا أحد يعلم ماذا سيخلف ذلك».
ليس ما قاله المحلل الاستخباراتي مجرد رأي شخصي، بل هو مقاربة مكثفة لكل ما حفلت به الصحافة الغربية من تحليلات خلال الايام الماضية، بدءاً بواشنطن وصولاً الى لندن وباريس.
وعلى سبيل المثال، فإن صحيفة «نيويورك تايمز» اشارت الى ان «سقوط الرمادي، على رغم الغارات الجوية الأميركية المكثفة فـي الاسابيع الاخيرة، يمثل اهم انتصار هذه السنة لداعش. كما تعكس هذه الهزيمة فشل الاستراتيجية التي تطبقها الحكومة العراقية التي اعلنت الشهر الماضي عن هجوم جديد من اجل استعادة محافظة الأنبار»، لافتة الانتباه الى ان «هذا التطور يأتي فـي ظل كلام مسؤولين أميركيين فـي الفترة الاخيرة عن تراجع تنظيم داعش فـي العراق وخسارته اراضي فـي محافظة صلاح الدين ومناطق اخرى شمال العراق بالقرب من اقليم كردستان»، لتخلص الى القول ان «سقوط الرمادي دليل على ان التنظيم لا يزال قادرا على شن عمليات هجومية».
لكن الغريب فـي الموضوع، هو الاصرار الاميركي المتواصل على الاستخفاف بالرمادي، برغم اهميتها الاستراتيجية. وحتى الآن، ما زالت الادارة الاميركية ترفض الاعتراف بخطورة ما حدث، وتستخدم توصيفات من قبيل «انتكاسة» التي خرجت عن لسان الجنرال ديمبسي، وهو نفسه الذي قال فـي نيسان ان «من الافضل الا تسقط الرمادي، لكنها لن تكون نهاية الحملة ضد تنظيم الدولة الاسلامية ان سقطت»، مشيرا الى ان «مصفاة بيجي شمال بغداد التي تتعرض لهجمات ضارية من الجهاديين لها قيمة استراتيجية اكبر»!
كل ذلك، يعزز الشكوك بأن الولايات المتحدة غضت الطرف عن سقوط الرمادي لغاية فـي نفس يعقوب.
والاكثر غرابة من ذلك ان سيطرة «داعش» على الرمادي تلاها انقلاب ملفت للانتباه فـي الموقف الاميركي من «الحشد الشعبي»، بعدما صارت الولايات المتحدة تروّج لأهمية انخراط هذا التشكيل العسكري فـي القتال ضد «داعش»، باعتبار انه «قوة مكمّلة للجيش العراقي» و«يتملك قدرات قتالية عالية» و«خبرة عالية بتحركات داعش»، وهو موقف مستجد يثير الكثير من التساؤلات، بعدما تحفظت الادارة الاميركية، عبر كثيرين من مسؤوليها الرفـيعي المستوى، على دور «الحشد»، بالنظر الى الدعم الكبير الذي يحظى به من ايران.
ومن ابرز هذه التساؤلات ما اذا كان الوقت قد حان للبدء فـي مشروع تقسيم المنطقة العربية ابتداءاً من العراق، خصوصا ان ثلاثة تطورات مجتمعة قد تزامنت مع سقوط الانبار: الاول، عودة الحديث بجدّية عن اقليم للسنة (وللمفارقة فإن سيطرة «داعش» على الانبار تلاها بساعات قليلة تبني مجلس النواب مشروع قانون يتيح تسليح السنة والاكراد بشرط التعامل معهم كـ«دولتين» !). والتطور الثاني تمثل فـي استعار الحملة السعودية-القطرية- التركية، عبر الفصائل الاسلامية، للتمدّد فـي ادلب وتدمر. اما الثالث، فكان «فتنة الكاظمية» بين السنة والشيعة فـي العراق، والذي اثار مخاوف جدية من ان تكون تلك الحادثة نذراً لفتنة اشمل!
لا يمكن فصل ما حدث فـي الرمادي عن المشهد العراقي العام، كما لا يمكن فصله عن المشهد الاكثر اتساعاً فـي الوطن العربي، الذي يبدو فـي عين عاصفة التقسيم والتفتيت.
الأهمية الاستراتيجة لـ«الرمادي»
تعود مدينة الرمادي مركز الأنبار إلى الواجهة بعد سيطرة داعش على المجمع الحكومي، وبعد أن قاموا بارتكاب مجزرة راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى باستخدامهم سيارات مفخخة فـي الهجوم.
وتشكل المدينة أهمية كبيرة بالنسبة للتنظيم المتشدد الذي استمات للسيطرة عليها، وذلك لأسباب عدة، ابرزها:
1- تعد الرمادي من ورقات الضغط الكبيرة على الجيش العراقي نظرا لموقعها الجغرافـي وتخومها مع جارتيها بغداد وكربلاء.
2- حدودها اللصيقة بسوريا تجعل من الممكن بل وربما من اليسير مد حدود دولة تنظيم داعش بين ما يسميها ولايتي الشام والعراق.
2- تعد مركز أكبر المحافظات العراقية التي تشكل ثلث مساحة العراق.
3- الأهمية الكبيرة لسكانها الذين يعدون حوالي مليوني نسمة وغالبيتهم من العشائر، التي كانت أول من أسس الصحوات ضد المتشددين والمتطرفـين فـي العراق إبان الاحتلال الاميركي.
الحشد الشعبي
فـي 13 حزيران العام 2014، وبعد سيطرة «داعش» على الموصل، أطلق المرجع الشيعي الكبير، السيّد علي السيستاني، فتوى دعا فـيها العراقيين إلى الجهاد الكفائي وذلك على أثر الإنهيار السريع للجيش العراقي أمام حرب العصابات الخاطفة التي شنّها تنظيم داعش ضده. هكذا ولد «الحشد الشعبي» الذي يخوض أشرس المعارك على الأراضي العراقية.
ويتألف «الحشد الشعبي» من مئات آلاف الشباب الشيعي العراقي الذين ينضوون فـي أكثر من 42 فصيلاً. ويتوزّع هؤلاء المقاتلون على فصائل كبيرة رئيسية بعضها له وجود سابق على فتوى السيد السيستاني، وأخرى أصغر حجماً وأقل عدداً تشكلت بعد الفتوى. وأهم فصائل الحشد الشعبي هي:
«سرايا السلام» (التابعة لـ«جيش المهدي» بزعامة السيد مقتدى الصدر).
«منظمة بدر» (انفصلت عن المجلس الاسلامي الاعلى ويقودها النائب هادي العامري).
«كتائب حزب الله – العراق» (كتائب سرية تنسق مباشرة مع ايران).
«عصائب أهل الحق» (يقودها الشيخ قيس الخزعلي الذي انشق عن التيار الصدري غداة قرار السيد مقتدى الصدر تجميد «جيش المهدي» فـي العام 2007).
«حزب الله – النجباء» (انشقت عن «عصائب اهل الحق» ويقودها الشيخ اكرم الكعبي)
«كتائب سيد الشهداء» (انشقت عن «كتائب حزب الله»)
«سرايا الجهاد والبناء» (تأسست بالتزامن مع فتوى السيستاني كاطار عسكري لثلاث تشكيلات اسلامية هي «حزب الله – العراق»، و«حركة سيد الشهداء»، و«حزب نهضة العراق»).
«كتائب التيار الرسالي» (تأسست بعد فتوى السيستاني ويقودها الشيخ عدنان الشحماني).
«سرايا الخراساني» (الجناح العسكري لـ«حزب الطليعة الاسلامي»).
«سرايا عاشوراء» (تشكلت بعد فتوى السيستاني وهي الجناح العسكري للمجلس الاسلامي الاعلى).
Leave a Reply