زيارة الى أبو ظبي.. ولقاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
ما من حاكم عربي في هذا الزمان الأغبر، نال من التكريم والتقدير والثناء والإشادة بكل خطوة خطاها في حياته العامة، مثل ما ناله المغفور له سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة ومنشؤها وباني نهضتها ورافع أعمدتها في كل حقل ومجال.
لقد قامت دولة الإمارات العربية بفضل تضحياته الكبيرة والواسعة، التي شملت تقديم الدعم المادي لتلك المشيخات التي كانت تفتقر إلى كل شيء والتي كانت تشكو لسموه دائماً القلة في الدخل، والقلة في السيولة والإحتياج الدائم للمال لتغطية جميع نفقاتها كمشيخات وفيها حاكم وحكومة وشرطة والعديد من الموظفين بشكل دائم ومستمر. وكان حكام هذا المشيخات التي أصبحت إمارات فيما بعد، كانوا يطلبون الدعم المادي من الشيخ زايد بن سلطان، لأن مشيخاتهم كانت تشكو الحاجة الدائمة للسيولة فلا نفط لديها ولا شركات ولا مشاريع ولا حتى طرقات ولا كهرباء ولا إستثمار، فكانوا جميعهم يتسلمون الدعم المادي من الراحل الكبير وكان بدوره لا يبخل على أحد منهم، فكان يزودهم بكل ما يحتاجون إليه من المال الذي هو عصب الحياة.
هذا على صعيد الداخل، وحينما بُذلت الجهود لإنشاء دولة الإمارات، انهالت على الشيخ زايد الشروط التعجيزية من معظم حكام المشيخات التي كانت حتى قبل قيام الدولة مفلسة من أية قدرة مادية، فكان سموه يأمر بدفع كل ما كانوا يحتاجون إليه – كحكام مشيخات – من مال وفير، وكان سموه يلبي لهم طلباتهم حرصاً منه على وحدة الصف الخليجي وتحقيق الوحدة بين المشيخات وشعوبها.
لم تكن مساعيه – رحمه الله برحمته الواسعة – تحظى بموافقة حكام الإمارات على ما يراه مناسباً لتحقيق الوحدة التي قامت فيها بعد بل كنا نرى الموفد الخاص لسمو الشيخ زايد بن سلطان، وأعني به الدبلوماسي الشريف الأستاذ أحمد خليفة السويدي الذي تولى منصب رئيس الديوان، ثم وزيراً للخارجية ثم أصبح الموفد الخاص لسمو الشيخ زايد بن سلطان، كنا نراه وفي كل أسبوع أكثر من مرة يطير أو يتوجه ليلا أو نهاراً سراً وعلانية ليلتقي بالحاكم فلان وبالأمير فلان وبالمسؤول في هذه الدولة أو تلك، كل ذلك من أجل تذليل الصعاب الكبرى – وهي كثيرة – التي كان يضعها بعض المترددين في تحقيق مشروع وحدة المشيخات – ضمن إطار دولة عربية واحدة – وكان البعض منهم يتردد كثيراً في الموافقة على تحقيق هذا المشروع الوحدوي إلا إذا تحققت له بعض المكاسب في قضية أو أكثر. لذلك رأينا الشيخ زايد كاد أن يطفح الكيل معه وأن يدع هؤلاء الذين يعارضون قيام وحدة عربية إلا إذا نالوا نصيباً من الدعم المالي الكبير الذي لم تتمنع دولة أو إمارة أبو ظبي من تقديمه – لأي حاكم مشيخة حرصاً على وحدة الصف العربي في منطقة الخليج قبل قيام الدولة وبعدها.
وأخيراً قامت دولة الإمارات العربية المتحدة، وهذه الوحدة ما كان لها أن تقوم لولا تضحيات الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله ولولا الصدر الواسع والحلم الكبير الذي اتصفت به شخصية الشيخ زايد، ولولا يقينه، بأن مشروع الوحدة هو مشروع حياة أو موت لأمة عربية، كادت أن تضيع بفعل مؤامرات الأعداء، أعداء الله وأعداء الأمة العربية بوجه خاص.
لقد تحملت إمارة أبو ظبي قبل قيام الوحدة، ومن أجل تحقيقها وبعد قيامها العبء المالي الأكبر الذي ترتب على الدولة الجديدة، فكانت بل كان الشيخ زايد بن سلطان هو الكفيل وهو الذي يدفع المال، وهو الذي يحقق المشروعات وهو الذي يغطي نفقات الدولة والجيش والشرطة والسفارات وهو الذي يقدم كل ما تحتاجه الدولة من مصاريف عامة وخاصة. وهو الذي يأمر بدفع المستحقات المترتبة على الدولة. عند إنجاز المشروعات وهو الذي كان مسؤولا مباشرا عن كل ما يتعلق بمسؤوليات الدولة المالية ونفقاتها المستحقة في نهاية كل عام.
أما باقي حكام المشيخات، فكان لا حول لهم ولا قوة سوى أن يرتبوا لأنفسهم المشاريع السياحية داخل البلاد وخارجها وقد رأيت البعض منهم يستأجر طائرة تشارتر من أجل نقل عائلاته وأولاده وسيارات اللاندروفر والحشم والخدم إلى الهند أو إلى الباكستان من أجل رحلة صيد قد يصطاد فيها هذا الحاكم أو الشيخ طيراً أو حيواناً أو خادمة جميلة المحيا وذات خصر وجسد رشيق أو لا يوفق في صيده أبدا.
كل ذلك كان يتم على حساب أبو ظبي ومالية أبو ظبي وذلك نتيجة لرحابة صدر هذا الرجل العظيم الذي خسرته الأمة العربية خسارة كبرى.
ولقد ذكرني هذا الموقف بمواقف مندوبي وسفراء بعض الدولة الأفريقية المنتسبة للأمم المتحدة الذين وفي بداية كل دورة جديدة للأمم المتحدة يتحرك سفراء الدول العربية ويبدأ هؤلاء السفراء العرب بالإتصال بزملائهم سفراء الدول الأفريقية بدعوتهم لتأييد مشروع عربي تتقدم به إحدى الدول العربية عبر سفيرها يطالبون فيه باعتبار إسرائيل بأنها دولة مغتصبة للأرض وعدوانية بشكل دائم ودائمة التعدي واختراق الأجواء اللبنانية بشكل واضح وصريح.
وقال لي أحد سفراء الدول العربية وكنا في قاعة السفراء في مبنى الأمم المتحدة بأنه وفي كل مرة نطالب بها الزملاء السفراء الأفارقة، عند درس مشروع قانون ينص على عدوانية إسرائيل، كانوا يقولون لنا بالحرف الواحد: أنتم دول نفطية ولديكم المال الوفير. لكي نؤيد مشروعكم ضد إسرائيل عليكم أن تقدموا لنا الدعم المادي الذي يساعدنا على تحقيق بعض مشروعات تنموية وذلك لنخفف عن شعوبنا الآم الفقر والحاجة ونكافح الأمراض المنتشرة في بلادنا.
وأضاف: إذا أنتم دعمتم مشاريعنا هناك فنحن ندعم مشاريعكم والقوانين التي تساعدكم أنتم في بلادكم وتحقيق ما تريدونه تحقيقه هنا ضد إسرائيل.
هذا ما قاله لي أحد السفراء العرب الذي كاد يغص من شدة القهر وخيبة الأمل.
ولقد كنت في أبو ظبي يوم جاء الرئيس أنور السادات بعد حرب العبور جاء ليشكر الحكام العرب في منطقة الخليج ورئيس دولة الإمارات بالذات على الدعم الكبير الذين قدموه دعما لمصر في حربها ضد إسرائيل وخاصة في حرب العبور.
وقد عقد السادات يومئذ مؤتمرا صحافيا في قصر المشرف وهو قصر الشيخ زايد بن سلطان، الذي دخل القاعة ويده بيد الرئيس السادات وكان السفراء العرب وعدد غفير من الصحافيين الأجانب والعرب وبعض حكام الإمارات، وكنت أحد الذي حضروا هذا المؤتمر الذي سمح فيه لكل صحافي أن يطرح سؤالا واحداً فقط على الرئيس السادات بعد أن يعلن عن إسمه وإسم الجريدة التي يمثلها وحينما جاء دوري قلت للرئيس السادات: سيادة الرئيس هناك من يطعن بإتفاقية الكيلو «مئة وواحد» ويشكك فيها، فما هو رأيك بهذا الطعن وبالذين يقدمونه إعتراضاً ورفضاً.
قال لي الرئيس السادات لحظتئذ: قل لهم عن لساني، أن يتقوا الله في الأمة العربية وقضاياها المصيرية.
كان المغفور له الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان يتحلى بأفضل وأشرف الصفات الإنسانية، وكان يأبى أن يبات ليله وفي البلاد فئة من الناس تعيش الفقر بأبشع حالاته، وهؤلاء لم يكونوا من أبناء دولة الإمارات، وإنما كانوا خليطاً من أجناس وأعراق مختلفة ومتعددة جاءت إلى أبي ظبي من كل حدب وصوب.
ووقفة لابد منها لنقول: إن النهضة الكبرى والوثبة الأكبر التي قامت بها دولة أبو ظبي قبل قيام دولة الإتحاد كانت أصدق صورة للمشاعر النبيلة التي تنطوي عليها نفس الراحل العظيم.
لقد كان يتطلع إلى العلى كي يضعه في متناول الأيدي الوفية والنفوس الكريمة، فكان كريماً إلى أبعد حدود الكرم، وكان وفياً لشعبه ووفياً لأمته، ووفيا لوطنه ولأبناء العروبة قاطبة، ولقد أرسى أمتن القواعد وأقواها ليقيم فوقها دولة تعتمد كل الإعتماد على العلم والنور والمعرفة.
كنت أزوره يوم كان نائباً للحاكم الذي هو شقيقه الشيخ شخبوط بن سلطان، وكانت زياراتي له متعددة، وفي مناسبات وطنية وعامة وكنت ألقى لديه كل تقدير وإحترام وكان محباً للصحافة وللصحافيين. إنما كان يكره الذين اعتادوا على النفاق والتطبيل والتزمير، وكان محباً ومخلصاً لكل من عرفه، يكره الكذب وأهله، ويمقت النفاق وأربابه، ويفتح قلبه لكل عربي مهما كان لونه وإتجاهه وكان يفخر بعروبته وأصوله العربية وجذوره الكريمة، وكان متواضعاً إلى أبعد الحدود.
ألا رحم الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وأسكنه فسيح جنانه الواسعة.
ومن مآثر هذا العملاق الإنساني الكبير، أنه توجه بعض أبناء إمارة دولة الإمارات العربية لزيارة الشيخ زايد في قصره وقدموا له شكوى بأن الناس هنا يعيشون أزمة مساكن وأن المساكن قليلة ولا يمكن لها أن تسد حاجة أبناء الشعب، فاستمع سموه لهم حتى النهاية، عندئذ قال لهم: منذ متى وأنتم تشكون من أزمة المساكن؟
قالوا له: منذ سنوات أربع.
قال لهم: هل يمكن لكم أن تضيفوا إلى السنوات الأربع أربعة أشهر فقط.
قالوا: نعم.
قال لهم: إتفقنا.
وفي اليوم التالي رأينا أكثر من جرافة ضخمة بدأت بتمهيد الأرض ومن ثم ليتلوها إستصلاح كبير لكل قطعة أرض لا تزال خالية من أي بناء، ولم تمض فترة الأشهر الأربعة حتى كانت معظم الأراضي الفارغة من أي بناء، وقد باتت مسرحا نشيطا لجميع أعمال التحضير – تحضير الأرض – لإقامة وإنشاء المساكن الصالحة للسكن ويتم توزيعها على المواطنين.
كل هذا وغيره تحقق بفضل وفاء هذا الرجل العظيم لشعبه ووطنه وأمته وعالمه العربي الواسع العريض. رحمه الله رحمة واسعة.
«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
Leave a Reply