طارق عبد الواحد وحسن خليفة – «صدى الوطن»
حطوا رحالهم أخيراً في مدينة غراند رابيدز بولاية ميشيغن وتنفسوا الصعداء، لكن آثار الرحلة الطويلة والشاقة، التي ابتدأت قبل خمس سنوات إثر نزوحهم من مدينة حمص السورية، ماتزال ندوبها عميقة الأثر في عيونهم وأصواتهم وذكرياتهم الجارحة عن رحلة «الخروج الكبير» من وطنهم الأم سوريا.
في مغتربهم الجديد على ضفاف بحيرة ميشيغن، يشعرون كما لو أنهم في وطنهم، بعدما اعتقدوا لوقت طويل أنهم سيكونون مجرد غرباء. هذا الشعور لا يمكن تلمسه من خلال ملامح المهاجرين الأكبر سناً، وإنما يمكن ملاحظته على وجه المولود البريء، ابن الأربعة أشهر، آدم، الذي وضعته أمه بعيد وصولها إلى الأرض الجديدة. آدم.. هو أول طفل يولد لعائلة سورية مهاجرة في الولايات المتحدة، وربما هي الصدفة التي دفعت عائلته إلى تسميته بهذا الإسم غير الشائع في البلدان العربية، أو ربما تيمنا بـ«آدم»، أبي البشر. ومن يدري لعل «آدم السوري» يكون مجرد بداية لأجيال قادمة من السوريين الذين سيصلون إلى الولايات المتحدة!
أثارت التعليقات الطريفة حول الطفل الجديد أجواء من المرح والانبساط مما ساهم في تنفيس الأجواء المتشنجة والأرواح المتوجسة من الضيوف. منا نحن.. من فريق «صدى الوطن» القادم من مدينة ديربورن. وعلق «عدي» (20 عاماً) على آدم، الذي كانت تتناقله الأيدي، قائلاً: من يدري.. لعله يصبح أوباما القادم!
لاجئون سوريون في غراند رابيدز يتحدثون لـ«صدى الوطن» عن تجربتهم في وطنهم الجديد.(صدى الوطن) |
التعليق الذي أضحك الحاضرين، بدا لوالده صالح مصدر تفاؤل، فالطفل الذي ولد -وفي حوزته الجنسية الأميركية- كان ضربة حظ موفقة لشخص لن يخوض رحلة عناء شاقة، مليئة بالإرهاق والآلام، كتلك التي اختبرها أبوه «صالح» في بلده الأم وفي بلد اللجوء الأول، الأردن، البلد الذي نزح إليه مئات آلاف السوريين هربا من الحرب الطاحنة في بلادهم، ليعانوا شظف العيش وقسوة الحياة، حيث اللقمة باتت مغمسة بالدم والظلم والإهانة.
الوصول الى غراند رابيدز
كان صالح يعمل في معمل لإنتائج رقائق البطاطا «تشيبس» في سوريا. وعندما اندلعت الحرب، وكانت بداياتها في مدينة حمص، وجد نفسه مع ملايين السوريين الذين اضطروا لمغادرة بيوتهم ومدنهم ووطنهم طالبين اللجوء إلى دول الجوار، ومن ثم التوجه نحو البلدان الغربية في أوروبا وأميركا، وكانت ولاية ميشيغن من بين الولايات الأميركية التي استقبلت في الآونة الأخيرة مئات اللاجئين السوريين بعد معاناة طويلة من التشرد.
أشار صالح إلى أولاده الثلاثة، وقال: إن مستقبلهم هنا في أميركا.. لم يعد لديهم أي مستقبل في سوريا. وكان الأب بعد وصوله بأيام إلى مدينة غراند رابيدز قد تعرف على الطبيب السوري الأميركي حسام عطال الذي يعمل على مساعدة القادمين الجدد، في استكمال معاملاتهم وإعانتهم في حياتهم وحل مشاكلهم اليومية.
وفي لقاء مع «صدى الوطن»، أبدى الدكتور عطال ثقته باستعداد اللاجئين وقدرتهم على تجاوز العقبات المستجدة، وقال: «في أول لقاء لي مع صالح.. كان سؤاله الأول لي حول إمكانية الحصول على عمل.. لقد كان محبطاً من رحلة التشرد الطويلة ولكنه بدا جاهزاً للانخراط في المجتمع الأميركي وراغباً في إيجاد وظيفة بأسرع وقت».
واستدرك صالح قائلاً: «لم نأت إلى هنا لكي يعيلنا أحد.. لقد جئنا لكي نعمل ونعيل أنفسنا وعائلاتنا.. نحن مستعدون للعمل ومتابعة التعليم والعيش في منازلنا مثل الآخرين.. لا نريد أن نبدو كلاجئين ينتظرون المساعدة». وأضاف: «لحظة وصولي مع عائلتي إلى مطار شيكاغو قادمين من الأردن شعرت بفرح آسر. لقد شعرت أنها نهاية رحلة التشرد الطويلة، وعندما وصلنا إلى ميشيغن كان بانتظارنا بيت جديد. لقد رأيت المستقبل وأنا أنظر من نافذة الطائرة.. كان يزداد إشراقا كلما اقتربت الطائرة من الأرض، وكلما ازداد لمعان مصابيح البيوت والشوارع.
وصلت العائلة المهاجرة ليلا، وكانت بانتظارها في مطار جيرالد فورد (في مدينة غراند رابيدز) مشرفة اجتماعية من منظمة «بيثاني كريستيان سيرفيسيز»، وهي منظمة تعنى بتقديم المساعدة للأطفال والعائلات المحتاجة.
اصطحبتهم المشرفة إلى بيتهم الجديد المؤثث تأثيثاً بسيطاً (شقة مؤلفة من غرفتي نوم) وكان الطعام في البراد يكفي العائلة الوافدة لمدة أسبوع بحسب ما أخبرتهم المشرفة، ريثما يتم تزويدهم ببطاقة المساعدات الغذائية (فود ستامب).
قضت العائلة ليلتها الأولى في المنزل الجديد، ولما استيقظت في الصباح، كانت نسمات الخريف الباردة تنعش أجسادهم وأرواحهم المرهقة. لقد شعرنا وكأننا نعيش في الأبدية في أول تجوال صباحي في جوار بيتنا الجديد، قال صالح.
الإهانة في الأردن
العائلة التي تنعم منذ ثمانية أشهر بالراحة والسلام في مدينة غراند رابيدز، كانت قد لجأت إلى الأردن لمدة أربع سنوات وقد تعرضت -كحال اللاجئين السوريين الآخرين- إلى مختلف أنواع التمييز والتضييق. وفي هذا الإطار، قال صالح: «لم يفتح لنا أي بلد عربي أبوابه كي نعمل ونعيش، وكنا أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن نعيش ظروف الحرب ونعاني من ويلاتها أو نعيش في البلدان الأخرى عرضة للإهانات والضغوط الشديدة».
عدي، وهو أحد أفراد عائلة لاجئة أخرى نزحت من مدينة حمص إلى الأردن قبل وصولها إلى ميشيغن، قال: «في الأردن حاولت جاهدا أن أحصل على عمل كي أعيل والدتي المريضة التي تحتاج إلى عناية طبية متواصلة، وكان الأمر صعبا للغاية.. لم يتقبلوا وجودنا وكان علينا أن نعيش مرارة ذلك الصراع».
وقالت والدته المصابة بأمراض قلبية إنها حاولت الدخول إلى الأردن للمرة الأولى في بداية العام 2012 ولكن السلطات الأردنية منعتها من ذلك وطالبتها بالمراجعة بعد أسبوع. لقد رجتهم كي يسمحوا لها بدخول الأردن شارحة لهم حالتها الصحية الحرجة وحاجتها إلى إجراء عملية مستعجلة.: «إلى أين سأرجع.. منزلي دمّر وزوجي قُتل»، قالت للمسؤولين الحدوديين الذي سمحوا لها في نهاية المطاف بعبور الحدود، حيث قام مكتب تابع «للمفوضية العليا للاجئين بالأمم المتحدة» بتسجيلها كلاجئة، بعد أخذ بصماتها وملء استمارة بالمعلومات الخاصة بها.
كانت أم عدي، وهي أم لسبعة أولاد، تظن أن معاناتها ستنتهي بعد مغادرتها سوريا، ولكنها أدركت بعد ذلك أن رحلة جديدة من المعاناة بانتظارها في بلد اللجوء، الأردن، حيث لا يحظى السوريون بما يكفي من الدعم والمساعدة كي يعيشوا حياة كريمة، ولا يسمح لهم بالعمل كي يتدبروا شؤون حياتهم.
صحيح، أن مؤسسات الإغاثة الوطنية والدولية كانت تقدم بعض المساعدات في البداية، ولكنها توقفت عن ذلك لاحقاً، وتعقدت المسائل كثيراً بعد استشراء المحسوبيات والفساد، قال عدي، وتابع: أنت كلاجئ غير مسموح لك بالعمل، عدا عن تعرضك للتمييز والإهانة، ولن تستطيع الحصول على أية مساعدة من المؤسسات المختصة، فإذا وجدوا عندك مروحة أو براد.. اعتبروا أنك تعيش برفاهية ولست بحاجة للمساعدة.
من ناحيته، قال عمار الذي لجأ إلى ميشيغن مع أمه وأخيه: «لجأنا إلى الأردن لأربع سنوات.. هناك كانت أرواحنا محطمة بسبب الكراهية التي مورست ضدنا».
كان «عمار» قد اشتغل في عدة أعمال بدون علم السلطات الأردنية كي يعيل أمه وأخاه، وحين اكتشف أمره أُجبر على توقيع تعهد بعدم مزاولة أي عمل تحت طائلة الترحيل. وقد أشار عمار إلى أن أفراد الناس العاديين كانوا يعارضون تشغيل السوريين بدعوى أنهم يأخذون فرص العمل التي هي من حق الأردنيين. وأضاف: «لقد هربنا من الحرب ولم يكن في نيتنا إثارة المشاكل».
طاقة الفرج
بعد أربع سنوات من إقامتها في الأردن، تلقت أم عدي اتصالا من «المفوضية العليا للاجئين» التي كانت على علم بوضعها الصحي، واستغرقت الإجراءات عشرة أشهر حتى وصلت مع ابنها عدي إلى ميشيغن حيث تتلقى الآن العلاجات الطبية المطلوبة.
حين كانت على متن الطائرة قادمة إلى أميركا، لم تصدق نفسها، وشعرت كما لو أنها تعيش في حلم، مع أن الإجهاد قد زاد في سوء حالتها الصحية، وفور وصول الطائرة إلى المطار، وفي صالة الاستقبال، بدأت أم عدي بتلقي العناية الصحية. وفي هذا السياق تقول: «للمرة الأولى منذ أربع سنوات شعرت بقيمتي كإنسان.. لقد عشت في الأردن أربع سنوات كانت مليئة بالإحباط والقهر ولم أستطع النوم في كثير من الليالي التي قضيتها باكية وحزينة، ولكن كل هذا انتهى الآن».
وطننا الجديد
كل من قابلتهم «صدى الوطن» في مدينة غراند رابيدز، وهم حوالي عشرة أشخاص ينتمون لثلاث عائلات سورية، عبروا عن ارتياحهم الشديد في ميشيغن التي وجدوا فيها ولاية مرحبة توفر لهم مسقبلاً مليئاً بالفرص. وقالت أم عمار: «لن أعود إلى سوريا أبدا.. لم يعد لي أحد هناك.. منازلنا تهدمت وراحت أرزاقنا.. وعائلتي وإخوتي وأقاربي تشتتوا في عدة بلدان، في الإمارات العربية المتحدة وفي السعودية وفي مصر وأنا هنا في أميركا.. لم يعد لي أحد في سوريا.. حتى جيراني تشردوا في بلاد الله الواسعة وما عدت أعرف عنهم شيئاً».
بدوره، قال صالح: «أميركا هي وطني الآن»! مضيفا أنه الآن يعمل بهمة وحماس في وردية ليلية في أحد المستشفيات القريبة كي يؤمن لعائلته فرصة أفضل للعيش الكريم. وفي الوقت ذاته، يقصد عمار وعدي دروس اللغة الإنكليزية في «كلية غراند رابيدز» حيث يتطلعان لمتابعة الدراسة الجامعية.
المصاعب مستمرة
لعدة سنوات، كانت الأسر اللاجئة شاهدة على حجم المأساة السورية التي أفقدتهم منازلهم وشردتهم غرباء في منافً عديدة ليتحمل أفرادها مختلف ممارسات النبذ والتمييز ضدهم من أبناء جلدتهم العرب، وها هم الآن يسكنون بيوتا آمنة ويتطلعون إلى الاستقرار والعمل في وظائف ثابتة.
وبالعودة إلى الدكتور عطال الذي انضم مع الأسر اللاجئة إلى مأدبة رمضانية في مطعم شرق أوسطي في المدينة، قال إنه أكيد أن السوريين، وبغض النظر عن مواقفهم السياسية مما يجري في سوريا، يشعرون بأنه قد تم التخلي عنهم من قبل حكومتهم والبلدان المجاورة وكذلك بقية بلدان العالم.
وأضاف: لقد كانوا بأشد الحاجة كي يشعروا بتقدير الآخرين لهم، وقد أحسوا بذلك هنا، وهذا من شأنه أن يسهل عليهم عملية الاندماج في المجتمع الأميركي.. إنهم متحمسون لكل شيء أميركي.
وقال إن التحصيل العلمي للعديد من أبناء الأسر اللاجئة متدنٍ، فأكثرهم لم يتمكن من متابعة دراسته في بلدان اللجوء، ولكنهم يرغبون بالعودة إلى المدارس، وهم يحتاجون في البداية لتقوية لغتهم الإنكليزية وتطوير مهاراتهم الأخرى.
وأضاف: تخيل أنك في بلد جديد وقد وصلتك رسالة تقول بأنك قد ربحت ألف دولار! إن العديدين منهم لا يدركون أن تلك الرسائل هي مجرد بريد زائف، كل شيء مهما بدا صغيراً يتعاملون معه بكثير من الاهتمام والحماسة.. وكل تفصيل يقعون عليه يعتقدون أنه حقيقي أو أنه مصدر للخوف أو الأمل.
وتابع بالقول: إنهم لا يدركون أن العنصرية موجودة في الولايات المتحدة.. لم يلاحظوا وجودها بعد.. العنصرية في أميركا موجودة ولكنها ليست واضحة المعالم فهي تمارس بطريقة خفية وغير مباشرة.. أنا وأنت نعرف ذلك، أما هم فلا يعرفون.
وأشار إلى أنه حين يقوم بتعريف بعض الأميركيين على أحد اللاجئين فإنهم يتجمدون (الأميركيون) ولا ينبسون ببنت شفة، ومع ذلك فقد أعرب عن أمله بقبول الأميركيين للاجئين الجدد، وقال: «الناس هنا في العموم طيبون ولكن المسألة تتعلق بالتصورات والمعلومات والصحيحة»، مؤكدا أن اللاجئين السوريين متحسمون للعمل ومتابعة التعليم والانخراط في المجتمع الجديد.
Leave a Reply